الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

المصريون وثقافة التسامح

"أيدي خفية تعبث بأمن مصر وتهدد استقرارها"
عبارة كربونية تكررت عقب كل حادث انفلات أمني أو فتنة طائفية تقع في مصر منذ الإطاحة بنظام مبارك الفاسد، عبارة أصبحت مثل الإكلاشيه أو المشجب الذي يعلق عليه كل الفتن والاضطرابات والفوضى التي تضرب مصر بقوة، وتحديدًا منذ ظهور نتائج الاستفتاءات على التعديلات الدستورية، والتي كانت على ما يبدو إشارة البدء في حملة منظمة ومرتبة يقودها "اللهو الخفي" من أجل نشر الفوضى والاضطرابات في مصر.
مصر كانت تعيش حالة فريدة من التكاتف والتلاحم أثناء ثورة الشعب المصري ضد الطاغية مبارك، فالجميع كأنه نسيج واحد، الشعب المصري بجميع أطيافه في حالة اصطفاف ميداني على مطلب سقوط النظام الاستبدادي، وظلت حالة السكرة بهذا النموذج الحضاري الفريد مستمرة حتى حانت لحظة الفراق وتمايز الصفوف وكشف النوايا، وهي لحظة الاستفتاءات الدستورية حيث اختارت التيارات الإسلامية ومعها الغالبية الساحقة للشعب المصري الموافقة على التعديلات، وهي الموافقة التي كانت ستسرع وتيرة الانتقال لحكم مدني وعقد الانتخابات وتكوين مؤسسات الحكم النيابية والتشريعية والتنفيذية، في حين تبنت الكنيسة معسكر الرافضين للتعديلات بدعوى كتابة الدستور أولاً قبل الانتخابات، وحقيقة خلال هذا الاستفتاء جرى تجييش ديني متعمد من كلا المعسكرين، فبعض الرموز الإسلامية ألبست الموافقة ثوب الإيمان وألحقتها برتبة الواجبات التي لا يحل تركها بحال، وفي المقابل شط معسكر الكنيسة وأعلن أن من يصوِّت بنعم فقد عادى المسيح ـ عليه السلام ـ وهكذا كانت الاستفتاءات بداية الاستفاقة من عارض التسامح بين الفريقين، ربما يسارع البعض فيعترض على لفظة "عارض التسامح" هذه، ولكني أوضح هذا المعنى فأقول: إن الأصل في الحالة المصرية التاريخية هو التسامح، ولكن هذا التسامح مر بعدة منعطفات أخرت التسامح لصالح الاحتقان والتوتر، وظلت تؤخره حتى أصبح الاحتقان هو الأصل والتسامح هو العارض.
فأولى المنعطفات كانت أيام الحملات الصليبية على مصر والشام أيام حكم المماليك وليس الأيوبيين، وهي الحملات التي انطلقت من جزيرة قبرص التي تولت كبر إرسال الحملات الصليبية على العالم الإسلامي بعد خفوت قوة الدول الكبرى مثل فرنسا وإنجلترا وألمانيا، وملوك قبرص الصليبيون ظلوا يشنون الحملات على مصر والشام لقرابة القرن ونصف من الزمان [ 1250 م ــ 1382] خلال هذه الحملات برزت بعض التصرفات السلبية من نصارى مصر والشام حيث أظهروا تعاطفًا مع هذه الحملات وتأييدًا خفيًّا لها، بل واشتراكًا فعليًّا وحقيقيًّا عندما قام بعض النصارى المصريين سنة 721 هـ ـ 1320م  بحرق أجزاء كبيرة من القاهرة مستخدمين مواد كيميائية أمدهم بها القبارصة، وكان من شأنها أنها تشتعل ببطء وبعد فترة، فأحرقت مساجد وجوامع وقصورًا وأماكن حسنة كثيرة، وقَنَتَ الناس في الصلوات واشترك الجميع في إطفاء الحريق حتى الأمراء أنفسهم، ثم انكشفت الجريمة بسبب كتاب تهنئة أرسله ملوك قبرص للجناة على جريمتهم الشنيعة، فعاقبهم السلطان المملوكي وقتها ـ سيف الدين تنكز ـ عقوبات كبيرة ورادعة، ولكنَّ المصريين أصابتهم الصدمة من خيانة هؤلاء النصارى لبلادهم، وأصبح النصارى لفترة طويلة محط شكوك وظنون السلاطين المماليك والشعب المصري.
ثاني المنعطفات كان عند دخول الاحتلال الفرنسي بقيادة بونابرت إلى مصر سنة 1798م ـ 1214 هـ، وأراد بونابرت أن يخدع المصريين فأظهر احترامه للإسلام وأنه جاء بأمر الخليفة العثماني للقضاء على ظلم المماليك، ولكنَّ المصريين قد فطنوا لخديعته وتعاملوا معه على أنه عدو صليبي حاقد يستهدف دينهم وبلادهم، ولكن الصدمة العنيفة تمثلت في رد فعل النصارى في مصر حيث انضمت أعداد كبيرة منهم للجيش الفرنسي وتم تشكيل ما عرف بالفيلق القبطي في الجيش الفرنسي، وكان يقوده واحد من أشد الناس حقدًا على مسلمي مصر وهو المعلم يعقوب حنا، وهذا الفيلق بلغ عدد أفراده قرابة العشرة آلاف قبطي وهم الذين تولوا هدم حي بولاق في ثورة القاهرة الثانية سنة 1800 على رؤوس ساكنيه، وفعلوا الأفاعيل البشعة والوحشية بحق مسلمي مصر، ولما خرج الفرنسيون من مصر خرج هؤلاء الأقباط معهم إلى فرنسا خوفًا من انتقام المصريين، وكانت هذه الحادثة بداية ما عرف بالمشكلة القبطية المعاصرة في مصر، حيث تبدلت حالة التسامح بدرجة كبيرة وأصبح الشك والتوتر والارتياب هو عنوان العلاقة بين المسلمين والنصارى في مصر.
ثالث المنعطفات كانت حادثة العربجي والمالطي والتي سبق وأن تكلمنا عنها في مقال منفرد وقد وقعت سنة 1876 م وفيها اختلف عربجي مصري مع مالطي على أجرة النقل وتحول الخلاف إلى معركة عنيفة قتل فيها العشرات ومعظمهم من الأجانب وجرح المئات واستغلت إنجلترا هذه الحادثة لتبرير هجومها على مصر واحتلالها لأراضيها بدعوى حماية الأقليات القبطية، وتحت هذا العنوان ظل الإنجليز يحتلون مصر لأكثر من سبعين سنة تغيرت فيها معالم مصر الثقافية والحضارية والاجتماعية بدرجة كبيرة جدًّا.
وأما رابع هذه المنعطفات وأخطرها وأطولها فهو تولي شنودة الثالث كرسي البابوية سنة 1971م، حيث كانت ولايته فاتحة عهد جديد من التصعيد والتوتر في العلاقة بين المصريين والنصارى في مصر، فشنودة شخصية في غاية الخطورة والتطرف، له أجندة خاصة وليست خافية على أحد، فهو يؤمن أشد الإيمان بأفكار جماعة الأمة القبطية المتطرفة التي كانت تريد أن تقيم دولة خاصة للأقباط في مصر، وهي الجماعة التي اختطفت البابا يوساب الثاني سنة 1955 وأجبرته على التنحي في قصة مشهورة، والمتابع لملف التسامح المصري منذ تولي شنودة يجد أنه يكاد يقع في حافة الهاوية بسبب سياسات شنودة الطائفية والانعزالية وطموحات الاستقلال عنده، فشنودة أجج مشاعر النصارى في مصر ونقلهم لحالة التثوير والانتفاض وحمل السلاح، وكرس عندهم مشاعر الانعزالية والتفرد والاختلاف، وغيَّر مفهوم المواطنة والانتماء، فالنصارى اسمهم الآن رعايا البابا أو شعب الكنيسة، ولا يطلقون على أنفسهم اسم المصريين إلا في المناسبات العامة، أما فيما بينهم فهم شعب الكنيسة وعيال قداسة البابا!
شنودة سيدخل خلال شهر عامه الأربعين في منصبه كبابا للنصارى في مصر، وخلال الأربعين سنة فقد المصريون تمامًا مشاعر الود والتسامح والرحمة فيما بينهم، فعشرات الحوادث الطائفية، وضحايا بالمئات، وحرائق ودمار لقرى بأكملها، ولا يكاد يمر عام بدون حادث طائفي بسبب كنيسة تُبنى أو فتاة تسلم أو غير ذلك من الأسباب التي كان من اليسير جدًّا حلها لو بقيت حالة التسامح المصرية على أصلها، وبالقطع لا يمكن أن نتجاوز الدور الكبير الذي لعبه نظام مبارك الفاسد في اللعب على أوتار الفتن الطائفية لإبقاء الشعب في حالة قتال داخلي ولا يطالب بحقوق أو عدالة أو حرية، وما جرى في حادثة تفجير القديسين ليس ببعيد.
المصريون الآن أمام أخطر هذه المنعطفات فالبقية الباقية من التسامح المصري على وشك الذهاب إلى غير رجعة، وعندما يكون الشك والريب والتوتر وسوء الظن هو الأصل في العلاقة بين مكونات أي شعب فهذا الشعب على وشك الاحتضار والخروج من ذمة التاريخ، لذلك وجب على العقلاء من كل جانب التداعي لكلمة سواء لوأد هذه الفتن المتلاحقة والجلوس على مائدة الحوار المفتوح لنسمع فيه مطالب كل فريق ونستل فيه حالة الاحتقان من النفوس، ونتحاكم فيه إلى قواعد العدل والحق والقانون والعقل السليم، بعيدًا عن لغة التهديد وحمل السلاح والاستقواء بالخارج أو الاستقواء بالأغلبية، لأن الخاسر في النهاية هو الجميع، ولسنا مطالبين أن نشهد لبعضنا البعض بالإيمان وصحة المعتقد، بقدر ما نحن مطالبون أن نقر لبعضنا البعض العيش في أمان وسلام وحرية معتقد، غير ذلك ستظل الفتن الطائفية الواحدة تلو الأخرى تعصف بالبلاد حتى نصل لمرحلة الحرب الداخلية المفتوحة، ويا لها من خاتمة مروعة لثورة عظيمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق