الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

حسن المستكاوى يكتب: كيف تكون إنسانًا ناجحًا؟

سألته: «كيف وصلت إلى هذا المنصب الدولى الرفيع فى أعرق وأكبر شركات صناعة التكنولوجيا.. هل أنت عبقرى؟
كان السؤال موجها إلى المهندس على فرماوى نائب رئيس شركة مايكروسوفت، الذى كان ضيفا على أسرة تحرير الشروق، وهو أول عربى ومصرى يشغل هذا المنصب، وواحد من خمسة يحتلون منصب نائب الرئيس.
أجاب المهندس على فرماوى الذى درس الهندسة فى جامعة الإسكندرية، على سؤالى بابتسامة ثم قال: «المسألة بسيطة.. يجب أن تحب شغلك، وأن يكون عملك هو هوايتك، وألا تغلق أبدا حواس التعلم، فتعيش حياتك كلها تتعلم من رؤسائك ومن مرءوسيك، من الكبار ومن الصغار.. كما يجب أن تحيط نفسك بمن يقولون لك الحقيقة، وليس من يقولون ما يسعدك ويرضى غرورك، وأن تعمل مع فريق، وتدرك أنك لا تساوى شيئا بدون هذا الفريق، ثم الأهم من هذا كله أن تعمل بجد، وتستمتع بهذا العمل حتى لو كان شاقا.. وأخيرا أن تكون مميزا فى عملك».
●● لم يبدأ المهندس المصرى كلامه بالتميز فى العمل، وهو دون شك وصل إلى منصبه بالتميز والمبادرة والإبداع.. لكنه تواضع الناجحين بحق.. ويدهشك أن أمثال على الفرماوى يجدون الوقت، على الرغم من مشاغلهم، لممارسة هوايتهم، فهو مشجع لكرة القدم يحب الأهلى فى مصر ويشجع مانشستر يونايتد فى إنجلترا ولعب كرة القدم فى أشبال فريق الاتحاد السكندرى، ولكنه فشل فى اللعبة ولم يحقق النجاح (لم يقل إنه كان لاعبا موهوبا لكن الحظ عانده).. وهو يقول: «تعلمت الإدارة من مانشستر يونايتد ومن أليكس فيرجسون».. بالمناسبة كانت كرة القدم من اهتمامات د. أحمد زويل، وهو من محبى نادى الزمالك، لم يحدث أن وجدت عالما مصريا أو طبيبا ومهندسا أو شخصا مهما يتعالى على كرة القدم وعلى تشجيعها ويراها مضيعة للوقت.
●● زملاء على فرماوى فى مايكروسوفت قدموا له التهنئة، بمناسبة ثورة مصر المضيئة، وتوليه منصب نائب الرئيس.. وهو يقول إن مصر تملك مقومات نهضة عظيمة، وأن أسلوب الحوار يجب أن يتغير، فيكون حوارا وليس إقصاء.. فالسائد أن كل طرف يرغب فى إقصاء الطرف الآخر.. سألت المهندس المصرى الموهوب عن رأى بيل جيتس أغنى رجل فى العالم عن الثورة فقال كان تعليقه: «أنتم تنظرون بعيدا إلى الماضى».
وكانت تلك هى الجملة الوحيدة التى قالها على فرماوى بالإنجليزية نصا ونقلا عن بيل جيتس، فطوال اللقاء لم يستخدم سوى اللغة العربية، ولم يفعل مثل كثير من القادمين من الخارج، الذين يقحمون كلمات أجنبية وهم يتحدثون العربية.
●● هكذا تحدث على فرماوى بتواضع ومقدما للشباب طريق النجاح فى العمل.. ترى لماذا ينحنى أصحاب المواهب الحقيقية أمام النجاح والناس بينما يتعالى الجهلاء والدخلاء إذا نجحوا ويبذلون جهدا مضنيا لإطالة قامتهم عند مواجهة الناس؟!
شغلنى ذلك ومازال وكنت دائما أقارن بين العباقرة بحق وبين أنصاف الموهوبين وأدعياء العلم والمعرفة الذين يهزمون الطاووس فى خيلائه وغروره..بذيله؟!

رسالة إلى الخطباء ... هل أتناول النوازل في خطبة الجمعة ؟

من المتفق عليه بين المسلمين أن خطبة الجمعة شُرعَت لتذكير الناس بما نسوا من أمر دينهم، وتنبيههم على ما غفلوا عنه، وتعليمهم ما جهلوا منه، وإرشادهم لما فيه صلاحهم، ووعظهم لترقيق قلوبهم؛ فكل أولئك من مقاصد خطبة الجمعة.
وإذا نزلت بالناس نازلة لها مساس بدينهم أو دنياهم فإن خطباء الجمعة من جملة مَن يُهرَع الناس إليهم، ويريدون رأيهم فيها؛ حتى إنهم يفرحون بتطرُّق الخطيب للنازلة، وينزعجون من تجاهله لها؛ ولذا فإنه لا بد للخطيب من العناية بفقه النوازل، وكثرة القراءة فيه، والتأمل الكثير في النازلة، وسؤال أهل العلم والاختصاص بها، وعرض تأملاته تجاهها عليهم، وأخذ ما لديهم من علم ومعرفة بها مما ليس عنده.
وهذه المقالة تحاول استقراء النوازل التي تهم الخطباء، ولها مساس بخطبة الجمعة، وتقسيم هذه النوازل باعتبارات عدة، مع مقترحات لكيفية تعامل الخطيب معها؛ فإني لم أقف على من عالجها على هذا النحو الذي أرى أن الخطيب يحتاجه رغم تعدد البحوث والمقالات في النوازل.
أقسام النوازل باعتبار مصدرها:
تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: النوازل الكونية التي لا يد للبشر فيها: كالزلازل والأعاصير والفيضانات ونحوها.
 القسم الثاني: النوازل التي وقعت بسبب البشر: كالحروب، ونشر الأوبئة، والتلاعب الاقتصادي والبيئي ونحو ذلك.
 أقسام النوازل باعتبار انتشارها:
تنقسم إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: نوازل محدودة: كالتي تصيب بلداً أو طائفة من الناس، مثل الزلازل التي تصيب بلداً فهي نازلة بالنسبة لمن أصابتهم.
القسم الثاني: نوازل محلية وإقليمية: وهي التي تصيب أهل دولة أو إقليم كامل، مثل سقوط قيمة العملات في شرق آسيا قبل سنوات، ومثل كارثة الأسهم في دول الخليج وخاصة في المملكة العربية السعودية.
القسم الثالث: نوازل دولية: وهي التي تعم الدول، ويتأثر بها أكثر البشر، مثل موجة الغلاء التي اجتاحت العالم، ومثل أنفلونزا الخنازير التي دخلت أكثر الدول.
 أقسام النوازل باعتبار أنواعها:
 أظن أنه لا يمكن حصر أنواع النوازل؛ إذ بالإمكان أن تكون النازلة في أي مجال من المجالات، ولكن يمكن وضع تقسيم كلِّي أغلبِي تندرج تحته أكثر النوازل:
النوع الأول: نوازل كونية: كالزلازل والفيضانات والغرق.
النوع الثاني: نوازل سياسية: كاحتلال بلد مسلم، أو تقسيمه، أو فصل بعضه عنه.
النوع الثالث: نوازل اقتصادية: كالكساد والغلاء.
النوع الرابع: نوازل بيئية وصحية: مثل تلوث الأجواء والبحار، وانتشار وباء في بلد من البلدان.
النوع الخامس: نوازل إعلامية وثقافية: فإن البث الفضائي، وشبكة المعلومات، وما يعرض فيها من فحش وعري وأفكار هدامة يعد من النوازل العظيمة.
 أقسام النوازل باعتبار زمنها:
يمكن تقسيمها إلى أقسام ثلاثة:
 القسم الأول: نوازل وقتية (أو مداها قصير): كالزلازل والبراكين والفيضانات ونحوها، وهذه لا بد للخطيب من معالجتها؛ لأن وقتها يفوت، وإذا أتى بها في غير وقتها كان تأثيرها في الناس ضعيفاً؛ فمثلاً إذا وقع زلزال، ورأى الناس آثاره وضحاياه في الشاشات، ونقلت إليهم قصص الناجين والمصابين، وحجم الدمار وعدد القتلى فإنهم يتأثرون بذلك، ويخافون أن يصيبهم ما أصاب غيرهم، فعلى الخطيب أن يهتبل هذه الفرصة؛ لقرب الحدث، واستعداد المصلين للتأثر الإيجابي بما يلقيه الخطيب عليهم.
القسم الثاني: نوازل مرشحة لزمن أطول؛ مثل الحروب التي تمس المسلمين، والأوبئة، والأزمات المالية، وهذه تحتاج إلى أكثر من خطبة في معالجتها؛ لأنه يغلب على الظن أنه تمتد إلى أشهر وربما جاوزت ذلك إلى سنوات.
القسم الثالث: النوازل المزمنة، وهي التي تمتد إلى عقود، وأوضح مثال عليها احتلال اليهود لبيت المقدس، كما كان احتلال الصليبيين له نازلة امتدت تسعين سنة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ولم يهدأ للمسلمين بال حتى طهروه من رجس الصليبيين. وكان للعلماء أثر كبير في تهييج الأمة ضد العدوان الصليبي آنذاك، وكانت خطب ابن نباتة - رحمه الله تعالى - دافعاً شحن نفوس الناس وعواطفهم لمقاومة المد الصليبي؛ ولذا فإن من أهم وسائل العدوان الغربي وذيله الليبرالي العربي تكثيف الهجوم على الدعوة والدعاة والمحاضرات والمنابر؛ لإضعافها عن القيام برسالتها في تنمية الحس الإسلامي تجاه قضايا الأمة، وتخدير المسلمين، وإماتة شعورهم تجاه قضاياهم، والقضاء على كل وسيلة تحفزهم لمقاومة العدوان على الإسلام والمسلمين.
والدعوة الليبرالية للانكفاء على الأوطان، وعدم الاهتمام بشأن المسلمين هو من ضمن مشروع إماتة إحساس المسلمين بقضاياهم؛ ليستفرد الأعداء بهم دولة دولة. والليبراليون أُجَرَاء في المشروع الاستعماري الصهيوني والصليبي؛ لأنهم يسوِّقون له تحت دعاوى نشر الحرية، ويطعنون في مقاوميه متهمين إياهم بأنهم ضد الحداثة والتنوير، ويدعون القيادات السياسية للانكفاء على مصالح الوطن بل مصالح الذات، وهذا يمثل انتحاراً سياسياً؛ لأن الاجتماع قوة، والتفرق ضعف، وإذا أمن الأعداء من معارضة الدول الإسلامية لاحتلال بعض البلدان شجعهم ذلك على احتلالها كلها.
وفي النوازل التي تطول أقترح ما يلي:
أولاً: عدم إهمالها بسبب طول أمدها، ولا حصر الخطبة فيها على حساب موضوعات أخرى؛ فإن النازلة مهما عظمت فليست كل شيء.
ثانياً: من سمة النوازل التي يطول أمدها أن أحداثها تشتعل بين حين وآخر، فيناسب أن يكون الحديث عنها حال اشتعالها بسبب حادثة وقعت أو تطور طرأ فيها.
ثالثاً: في مثل هذه النوازل يحتار كثير من الخطباء في الحديث عنها؛ لأن غالب موضوعاتها مكرورة، وقد سئمها الناس من كثرة الحديث عنها، وإن جعل الخطيب الخطبة في السبب الذي حرك النازلة أو الحدث الذي استجد فيها ربما انقلبت خطبته إلى تحليل سياسي، وهذا ليس جيداً في خطبة الجمعة التي ينبغي أن يحافظ الخطيب على سمتها الشرعي؛ ولذا فإنه لا بد من موضوع مفيد يكون أصلاً للخطبة له تعلُّق بالنازلة، وفي أثنائه أو بعده يعرج الخطيب على الحدث المتجدد في النازلة.
 وما من نازلة إلا ولها جوانب عدة يمكن للخطيب أن يتناول في كل مرة جانباً من هذه الجوانب؛ ليجدد على الناس فلا يسأموا موضوع النازلة، وليفيدهم بجوانب منها ما كانوا يعلمونها من قبل.
 فمثلاً: قضية فلسطين التي تمثل أطول نازلة معاصرة يستطيع الخطيب أن يتحدث في سلاسل من الخطب عن: فضل القدس، وعن فتحه، وعن تاريخه، وعن صفات اليهود في القرآن والسنة، وعن تاريخهم وأفعالهم مع رسلهم - عليهم السلام - وعن أفعالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأحداثهم في السيرة النبوية، وعلاقتهم بالنصارى وتاريخهم معهم، وهذه الموضوعات الكلية يمكن تفتيتها إلى عشرات الخطب، وتكون أصلاً للخطبة التي سيتناول الخطيب النازلة فيها.
توجيهات عامة في النوازل:
التوجيه الأول: أن لا يتكلم الخطيب في النازلة إلا بعلم؛ سواء في ما يتعلق بها من أحكام شرعية، أو في الإخبار عنها، أو في إرشاد الناس لما يعملونه حيالها؛ فليست خطبة الجمعة مقالة في صحيفة أو مجلة يبث فيها الكاتب آراءه الشخصية، بل هي عبادة مشروعة، وتكتسب مصداقية عند الناس، فلا يحسن بالخطيب أن يهز هذه المصداقية، أو يستغل المنبر لبث آرائه الشخصية وهي لا تتسق مع النصوص، مع اشتراط امتلاكه للآلة العلمية في النازلة، فالخطأ يكون بسبب الجهل أو بسبب الهوى، فَلْيحذرهما الخطيب.
التوجيه الثاني: إذا استعصى على الخطيب فهم النازلة، أو تنزيل الأحكام الشرعية عليها؛ لشدة التباسها، وكثرة الخلاف فيها فلا يحسن به إهمالها بالكلية، وعليه أن يتلمس فيها مواضع الاتفاق، ومواطن العبرة والاتعاظ، وحينئذٍ لم يهمل النازلة بالكلية والناس يتشوفون لكلامه فيها، ولم يقل فيها بلا علم، ولعل أقرب الأمثلة على ذلك الثورات العربية التي اختلف فيها الناس اختلافاً كثيراً؛ فمنهم من أيدها بإطلاق، ومنهم من منعها بإطلاق، ومنهم من أيد بعضها ومنع بعضها باعتبار حال الحكام أو باعتبار حال المحكومين أو باعتبار من يحرك الثورة، أو باعتبار المستفيد منها... إلخ، وأحداث بهذه الضخامة هي حديث الإعلام والناس لا يحسن بالخطيب الإعراض عنها لحيرته فيها، وإنما يستطيع التطرق لما هو متفق عليه فيها مثل:
 1 - قدرة الله - تعالى - في إعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء، وأنه مالك الملك يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
 2 - عاقبة الظلم والأثرة، وأنهما سببان لاضطراب الدول، واختلال الأمن.
 3 - أهمية العدل في توطيد الأمن والاستقرار، وحاجة الناس إليه.
 4 - عاقبة الظالمين ومصارعهم في الدنيا والآخرة.
 5 - كثرة الفتن والاضطراب في آخر الزمان، وما ينبغي للمسلم في أحوال الفتن.
 6 - أسباب الأمن والاستقرار، وأسباب الخوف والاضطراب.
التوجيه الثالث: أن يفرق الخطيب في تناوله للنازلة بين بدايات وقوعها، وبين انتشارها وعموم البلوى بها؛ ليكون ذلك أدعى لقبول توجيهه للناس؛ فإن المعاصي يُنسِي المتأخر منها المتقدمَ حتى يألفها الناس، وإن الفتن يرقق بعضها بعضاً كما في الحديث، ومن الأمثلة على ذلك نازلة البث الفضائي؛ ففي بداياته حذر العلماء والخطباء من الأطباق الفضائية وحرَّموها، وهو تحريم وسائل لا تحريم ذوات؛ فإنها لما كانت تفضي إلى المحرمات ولا يوجد بدائل من جنسها كان الصواب التحذير من جميعها، ولو وجد فيها قليل من البرامج النافعة؛ وذلك لغلبة المحرم فيها.
 لكن لما نشأت القنوات الإسلامية، ووجدت قنوات علمية خيرها غالب، وشرها قليل، وقد انتشر هذا البلاء في الناس وصار جزءاً من حياتهم اليومية لم يكن من المناسب في الخطب إطلاق تحريم البث الفضائي وأطباق استقباله أو إطلاق تحريم التلفزيون، وهذا التناول سيكون محل استهجان وانتقاد عند أكثر العامة والخاصة، وهذا يؤدي إلى عزوف الناس عن الخطيب، وعدم قبول قوله، فتكون الاستفادة من خطبة الجمعة قليلة أو معدومة، وهذا ينافي مقاصدها التي شرعت لأجلها.
 وأفضل من ذلك وأحرى بقبول الناس وبتحقيق المقصود دون تنازل عن شيء من الشريعة أو تسويغ المنكرات: التحذير من القنوات التي فيها انحراف فكري أو أخلاقي، أو التحذير من برامج منحرفة، ودعوة الناس إلى حجبها عن أسرهم وبيوتهم، وحثهم على الفضائيات النافعة للاستعاضة بها عن الضارة.
التوجيه الرابع: إن كانت النازلة فيها يد للكفار والمنافقين كالحروب التي يفتعلونها، أو الأزمات الاقتصادية التي يحدثونها في بلاد المسلمين فهي فرصة للخطيب في بيان العداوة الأبدية التي يكنُّها الكفار والمنافقون للمؤمنين، كما دل على ذلك كثير من الآيات القرآنية كقول الله - تعالى -: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْـحَقُّ} [البقرة: 109]، وقوله - تعالى -: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وقوله - تعالى -: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، وقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]، وقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: ١].
 وفي بيان كيدهم للإسلام وأهله، ومكرهم بهم قول الله - تعالى -: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّـذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} [الرعد: ٣٣]، وقوله - تعالى -: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْـجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، وقوله - تعالى -: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: ٢٢]، وقوله - تعالى -: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18]، وقوله - تعالى -: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ} [غافر: 25]، وقوله - تعالى -: {إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15].
وفي وجوب الحذر منهم قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]، وقوله - تعالى -: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49].
التوجيه الخامس: اجتهاد الخطيب في الربط على قلوب الناس وتثبيتهم، وتعليق قلوبهم بالله - تعالى - ودوام التمسك بدينه؛ وذلك في النوازل المخوفة التي لها مساس بأمن الناس وأرزاقهم، كما في النوازل السياسية والاقتصادية، ونوازل الكوارث والأمراض والأوبئة التي تفتك بالناس؛ فإن العقول تطيش فيها، وينحرف كثير من الناس بسببها في باب القدر، من هول الفاجعة، وفقد المال والأهل والولد، فيحتاجون إلى تثبيت وتصبير، وعلى الخطيب أن يركز الخطب في التوكل على الله - تعالى - وتعلق القلوب به وحده دون مَن سواه، وبيان الحِكَم في ابتلاءاته - سبحانه - لعباده، وكيف يواجهها المؤمن، والأجور العظيمة المرتبة عليها، وأسباب رفع العقوبات، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا النوع من النوازل مما تمس حاجة الناس إليه كأحكام الموت الجماعي في التغسيل والدفن والتوارث ونحو ذلك.
والفقه في هذا النوع من النوازل مما تمس حاجة الخطيب له؛ لتكرار وقوعه، وشدة خوف الناس منه، وعودة كثير منهم إلى الدين بسببه، ولجوئهم إلى المساجد والخطباء لعلاج قلوبهم من الألم والخوف، ولأهمية هذا النوع من النوازل فلا بد من توجيهات تفصيلية فيه، ومن هذه التوجيهات:
أولاً: بيان أن هذه الكوارث والنوازل عقوبات لمن أصابتهم وكانوا ممن يستحق العقوبة، وابتلاء لمن لا يستحقونها، ورحمة وإنذار لمن سلموا منها، وتخويف لعموم الناس، وإظهار لقدرة الرب - جل جلاله - عليهم. قال الله - تعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] وهذا دليل على القدرة الباهرة لله - تعالى - أن يجعل في النازلة الواحدة رحمة وعذاباً وابتلاء وتخويفاً وإنذاراً.
 وقد تصيب الكارثة مسلمين عقوبة لهم، ويسلم منها كفار ومنافقون؛ استدراجاً أو إمهالاً أو ابتلاء للعباد؛ فإن الحق والباطل، والإيمان والكفر، ابتلاء يبتلي الله - تعالى - به عباده.
 والناس في هذا الباب ثلاث فرق:
الفريق الأول: ينفي العقوبة في الأقدار الكونية، بل ربما جرَّدها من أفعال الرب - سبحانه وتعالى - ونسبها للطبيعة، أو يعزو تسليط الكفار على المسلمين، أو تسليط المسلمين بعضهم على بعض إلى عوامل سياسية أو اقتصادية ملغياً الأبعاد الدينية والعوامل الشرعية، وهذه طريقة الملاحدة ومن وافقهم من العلمانيين والليبراليين، وللأسف فإن بعض من ينتسبون للتيارات الإسلامية أصابتهم هذه اللوثة المنتنة، فعجبوا من كون هذه الكوارث تصيب المسلمين، أو تصيب الضعفة والفقراء، وأهل الفساد من أهل الغنى في منأى عنها، ومنهم من يتطاول فيزعم عدم وجود نص على ذلك، رغم توارد النصوص عليه حتى بلغت التواتر، ومنها: قول الله - تعالى -: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وقوله - تعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقوله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقوله - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: ٤٤]، وقوله - تعالى -: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [هود: ١٠١]، وقوله - تعالى -: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِـمِينَ} [الزخرف: 76]، وقوله - تعالى -: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: ٣٣] .
والغالب أن أصحاب هذا الاتجاه يحكِّمون عقولهم القاصرة في أقدار الله - تعالى - ويوردون على الناس ما علق في قلوبهم من شبهات، ويظنون أن أفعال الرب - سبحانه - لا بد أن تتوافق مع أفهامهم الخاطئة، ومدركات عقولهم القاصرة، فيقولون: لماذا تقع هذه المصائب على المؤمنين ويسلم منها الكافرون؟ ولماذا تصيب الضعفاء ولا تصيب الأقوياء؟ وهل من المعقول أن يسلم أهل الفساد العقدي والأخلاقي والإداري والمالي منها، وتصيب الكارثة ضحايا هذا الفساد ولا يد لهم فيه؟ كما قالوه في نازلة غرق جدة.
الفريق الثاني: يجزم بالعقوبة في كل حدث ويركز عليها، ويهمل جوانب الابتلاء والرحمة والتخويف والإنذار، بل يبالغ بعضهم في ذلك فيقع في أخطاء فاحشة تؤخذ عليهم، وفي إعصار كاترينا سمعت أحد الدعاة في مسجد يفتتح موعظته بقول الله - تعالى -: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] ويجزم بأن مثل هذه الأعاصير المدمرة لا تصيب المسلمين لإيمانهم، بل هي مختصة بديار الكافرين، ونسي أن تسونامي قد أصاب بلداً مسلماً، وأن الزلازل كانت ولا زالت تدهم كثيراً من بلاد المسلمين كما تصيب الكافرين، ومثل هذا الحديث المجافي للواقع يفقد الخطيب المصداقية.
 الفريق الثالث: فريق التوسط والاعتدال، الذين عندهم أصول شرعية يستندون إليها، ولا يحكِّمون عقولهم في أقدار الله تعالى، ومن هذه الأصول العظيمة: أن الله - تعالى - لا يظلم أحداً، وأن أفعاله - سبحانه - بين العدل والرحمة، ورحمته تسبق غضبه، ويؤمنون أن البشر كلهم مستحقون لعذاب الله - تعالى - لأنهم مقصرون في شكر الله - تعالى - ويكفرون نعمه - سبحانه - عليهم على تفاوت بينهم في ذلك، وقد جاء في الحديث:«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أَنَّ الله عَذَّبَ أَهْلَ سماواته وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ غير ظَالِمٍ لهم»[2]. وروى أَبِو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْ يُؤَاخِذُنِي اللهُ وَابْنَ مَرْيَمَ بِمَا جَنَتْ هَاتَانِ يَعْنِي الإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهَا لَعَذَّبَنَا ثُمَّ لَمْ يَظْلِمْنَا شَيْئًا»[3].
ثانياً: عدم الجزم بكرامات لم يقف عليها الخطيب بنفسه، أو تكون مما هو معتاد فيضخمها الناقل ويزيد عليها، خاصة في قصص الناجين؛ لأن الغرائب في قصص الناجين قد تقع للمسلم والكافر، والبر والفاجر، ولا تختص بأهل البر والتقوى لحِكَم يريدها الله تعالـى. وما يخفـى علينا من أسـرار أفعـال الله - تعالى - ومقاديره في البشر أكثر مما نعلم. وقد يجزم الخطيب بكرامة في نازلة فيذكر الخصوم مثلها للكفار فيكون في ذلك فتنة للناس، وأذكر في إعصار تسونامي أن أحد الدعاة الفضلاء نشر صورة لمسجد لم يمسه شيء من الدمار، وانتشرت الصورة في الإنترنت، فنشرت صحيفة علمانية صورة لكنيسة لم تُصَب أيضاً فكان في ذلك فتنة لبعض الناس، ففسر بعض الدعاة ذلك فقال: لأن الكنائس مكان عبادة الله - تعالى - وتعظيمه فلعلها لم تصب لأجل ذلك! وغفل هذا الداعية عن كون الكنائس مقراً للشرك بالله - تعالى - وعبادة المسيح وأمه عليهما السلام. وسبب الوقوع في هذا الخطأ الشنيع هو التكلف في تلمس الكرامات، والجزم بها.
ثالثاً: الاستدلال بالنازلة على قدرة الله - تعالى - وقوَّته، وأنه - سبحانه - إن أهلك بعض مـن حلت بهـم الكـارثة فهـو - سبحانه وتعالى - قادر على أن يهلك البشر أجمعين، وأن يبدل بهم غيرهم كما قال - تعالى -: {إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال - تعالى -: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْـمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، وقال - تعالى -: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]، وقال - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْـحَقِّ إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ 19 وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19 - 20]، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ 15 إن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ 16 وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: 15 - 17]، وقال - تعالى -: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْـمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ 60عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 60 - 61]، وقال - تعالى -: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} [الإنسان: 28].
 وفي قدرته - سبحانه - على عباده. قال - تعالى -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]، وقـال - تعالى -: {وَإنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 95].
رابعاً: التخويف من الذنوب وآثارها السيئة على الأفراد والجمـاعات، وأنها سـبب كل مصيبة تحل بالناس؛ لقـول اللـه - تعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقوله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وهذا قانون رباني، وسنة قدرية أن الله - تعالى - لا يصيب العباد إلا بما اقترفوا من العصيان.
خامساً: دعوة الناس إلى التوبة ومحاسبة النفس؛ فإن أثر النازلة لا يزال في قلوبهم، ويخشون أن يصيبهم ما أصاب غيرهم، مع بيان أن التوبة والاستغفار والدعاء أسباب لرفع العذاب كما قال الله - تعالى - في التوبة: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَـمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْـخِزْيِ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ} [يونس: 98] وقال - سبحانه - في الاستغفار {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: ٣٣] وقال - تعالى - في الدعاء: {فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
سادساً: تلمُّس لطف الله - تعالى - ورحمته بعباده، ونعمته عليهم، حتى على المصابين منهم؛ إذ لم يكن الأمر أشد مما أصابهم، والله - تعالى - قادر على أن يصيبهم بما هو أشد وأعظم وأكثر خسارة وضرراً، وتذكير الناجين من النازلة ومن لم تصبهم بنعمة الله - تعالى - بالنجاة.
سابعاً: دعوة الناس إلى مواساة أهل النازلة إن كانوا من المسلمين، والوقوف معهم مادياً ومعنوياً لتخفيف مصابهم، وإشعارهم بالأخوة الإيمانية. والدعاء لهم على المنابر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على المنبر لما نزلت نازلة الجدب والحاجة بالناس، ثم دعا على المنبر أخرى لما غرقت الأرض وتضرر الناس.
ثامناً: إذا كانت النازلة مما له تعلُّق بتغيُّر الأحوال الكونية فهي فرصة للتذكير بيوم القيامة، وما يجري فيه من تغيرات في الكون جاءت أوصافها في كثير من السور كالواقعة والقيامة والتكوير والانفطار والانشقاق وغيرها.
تاسعاً: إن كانت النازلة كارثة نزلت بقوم ظهر طغيانهم، ومحادتهم لله - تعالى - واستعلاؤهم على البشر، وأذيتهم لهم، فمن المناسب الحديث عن عاقبة المجرمين، ومصارع الظالمين. قال الله - تعالى - في قوم نوح: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُنذَرِينَ} [يونس: 73] وفي آية أخرى {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّـمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِـمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان: 37]، وقال - تعالى - في قوم صالح: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 50 فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ 51 فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 51 - 52]، وقال - تعالى - في قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84]، وقـال - تعالى - في فرعون وجنده: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] وفي آية أخرى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِـمِينَ} [القصص: 40]، وقال - سبحانه - في عموم المكذبين من الأمم الخالية: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِـمِينَ} [يونس: 39]، وفي آية أخرى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ 71 وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ 72فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُنذَرِينَ} [الصافات: 71 - 73]، وفي ثالثة: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 25].
 ففي هذه الآيات يأمرنا الله - تعالى - بالنظر في نهايات الظالمين - سواء ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي أو ظلموا غيرهم بأذيتهم لهم، والأغلب أن كلا نوعي الظلم يجتمع في الكافرين - وفائدة النظر في مصيرهم مجانبة طريقهم الذي أرداهم، والحذر من أعمالهم التي أوبقتهم، فتأسياً بالقرآن في التذكير بمصير الظالمين ينبغي للخطيب أن يبين للناس عاقبة الظلم بأنواعه في الكوارث التي تحل بالظالمين.
 عاشراً: التنبيه على ما يقع من أخطاء في التناول الإعلامي للكوارث والنوازل؛ فإن أكثر الإعلاميين من أجهل الناس بالعقيدة والشريعة، وأجرئهم على الكلام بلا علم أو بهوى، فتتسرب أقوالهم الخاطئة إلى العامة، ومن أخطائهم المتكررة:
 1 - نسبة الحوادث الكونية إلى الطبيعة، أو تعليقها بأسباب مادية دون ربط ذلك بقدر الله - تعالى - وقدرته؛ كتفسير الزلازل بتصدعات في الأرض، والفيضان بمد البحر، ونحو ذلك.
2 - وصف من قضوا في النوازل الكونية بأنهم أبرياء، وهذا يشعر بأنهم مظلومون، ولازم ذلك أن من فعل بهم ذلك قد ظلمهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
3 - في النوازل التي تصيب الكافرين - خاصة الدول المستكبرة - ينبري أبناؤها البررة لها، العاقون لأمتهم للوقوف معها أكثر من وقوفهم مع كوارث أوطانهم - رغم تشدقهم بالوطنية - فينقلبون إلى وعاظ ومفتين يقررون عدم الفرح بمصاب الآخرين - وهم الذين يفرحون دوماً بمصاب المسلمين ويشمتون بهم - ومنهم من يتعدى على الله - تعالى - في ربوبيته؛ فيزعمون أن أولئك القوم لا يستحقون الكوارث؛ لأنهم أهل الحضارة والتقدم، ولخدماتهم للإنسانية - حسب قولهم - ولحاجة البشر إليهم، ومنهم من يجاوز ذلك فيقرر أن الدول المتقدمة قادرة على مواجهة عشرات الكوارث مهما كان حجمها، في لغة تأليهية لبعض البشر، يتحدَّون بهم رب العالمين جل جلاله، نعوذ بالله - تعالى - من الزيغ والضلال.
وهنا ينبغي للخطيب التنبيه على هذه التجاوزات، وبيان الحكم الشرعي في موقف المسلم منها، ومواجهة المد الإلحادي المادي المستهين بعظمة الله - تعالى - وقدرته، وتكون مواجهته برد دعاوى أصحابها، وغرس تعظيم الله - تعالى - في القلوب.
حادي عشر: بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالنازلة، مثل التعامل مع شهداء الغرق والهدم ونحوه في الدفن وفي المواريث وغيرها، وخاصة في البلد الذي وقعت فيه الكارثة؛ لأن لفقه النوازل مناسبته في الديار التي أصيبت به.

لا عزة لنا إلا بالإسلام

أمة الإسلام في هذه الأيام تعيش وتواجه متغيراتٍ كثيرة ، لأسبابٍ منها: وجود الانفتاح الإعلامي العالمي، وعولمة الغرب، وتفرق المسلمين وتنوع مناهجهم، سواءً فيما يدعون إليه، أو في كيفية مواجهة أعداء الدين على مختلف مللهم ونحلهم. وطوائف أهل البدع الضالة على تفاوت درجاتها في الضلالة.
ومواجهة ذلك المواجهة الصحيحة، تكون بقوة الحق الواضح المستبين ، بالتأصيل العلمي والمنهجي في حياة المسلمين عامة وأهل العلم والدعوة إلى الله خاصة، وهذا الذي سار عليه سلفنا الصالح منذُ زمن الصحابة- رضي الله عنهم- ومن جاء بعدهم، من أئمة الهدى في القرون المفضلة وما بعدها.
وأي انحرافٍ عن منهجهم- بتنازلاتٍ عن أصول الدين ومسلماته، أو بالتقاربِ مع طوائفِ الضلالِ والبدع، أو الرضا براياتٍ جاهليةٍ علمانية، لتحقيق مصالح قومية ونحوها، أو تبني أطروحاتٍ كلاميةٍ عقلانيةٍ منحرفة من أجل التقاربِ مع حضارة الغربِ وثقافته، وعدم الصدام معها- أو غير ذلك من ألوان الانحراف، فلن يزيدنا إلا تفرقاً وضعفاً وهزيمة أمام أعدائنا.
وعلى ذلك فالدعوة إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح علماً وعملاً، وسلوكاً ومنهجاً، هو الواجب عند اختلاف الأمة وتفرقها، كما أخبر بذلك رسول الله e، وتفصيل ذلك يطول، وقد كُتبت فيه والحمد لله دراسات متعددة.
ولكني أشير- في هذه العجالة- إلى جملةٍ من الأسس التي لابد منها، أهمها:
اليقين القاطع الذي لا يتزعزع بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ومنه هذا العصر الذي نعيشه، بعولمته، وتقنياته، وقوة أعداء الإسلام المادية، وضعف المسلمين وتأخرهم.
وليس هذا من باب الأماني، ولا من باب التعلق بمطلق الغيبيات الذي يحاول التيار العلماني أن يفسر به الحلول الإسلامية المؤصلة، ولكنه حقائق هذا الدين علماً وعملاً، وتاريخاً وحضارةً وتجربة، وشهاداتٍ من الأعداء تلجمُ أفواه هؤلاء الذين ما فتئوا يطعنون في هذا الدين وحقائقه العقدية والشرعية الكاملة، وها هي تجاربهم العلمانية- على مختلف مدارسها الفكرية- وعلى مدار قرابة المائة عام، لم تقدم فكراً مؤصلا، ولا مواجهةً لحضارة الغرب، ولا نصراً على الأعداء، ولا حياةً هنيئةً لشعوبهم المسكينة، بل جرت الأمة إلى ألوانٍ من الهزائم العسكرية والسياسية، والثقافية والاجتماعية والتقنية، ونحن في مزيد.
ولكن ينبغي أن يعلم جميع من يحبُّ هذا الدين، ويفرح بالانتساب إليه، ويرى فيه الحلول المثلى لواقعنا، أن هذا لا يكفي، وأن مجرد العواطف الجياشة لا تصنعُ شيئاً بمجردها.
بل لابد- إن كنا جادين في أخذ هذا الدين بقوة- من أمورٍ ثلاثة:
الأول : العودة الصادقة إلى هذا الدين والثبات عليه، ونعني بذلك أن تعود الأمة إلى إسلامها، عقيدةً وشريعةً ومنهاج حياة، وثقةً بهذا الدين وصلاحيته، وأن تأخذه بقوةٍ وصدق مع ربها تبارك وتعالى، وأن لا يزيدها عداءَ الأعداء واتهاماتهم وأقاويلهم إلا ثباتاً على هذا الدين، وثقةً به وتمسكاً بحبل الله المتين.
ومن ثم فلا مجال في هذه الأمة- إن أردنا العودة حقاً وصدفاً- للمشككين والمرتابين والمنافقين، فضلاً عن الملاحدة والزنادقة المعلنين رفضهم لهذا الدين.
الثاني : اليقين التام بأن هذا الدين حق، لأنَّه من عند الله تعالى، الملك الحق المبين،الذي أرسل خاتم رسله محمداً e، لتكون رسالته ناسخةً لما سبقها من الديانات، فدين اليهود أو النصارى لو فرض أن أهله تخلوا عن كل كفرٍ وشرك، عرفوا به ولم يؤمنوا ويتبعوا محمداً  e، فهم على ضلالٍ وكفرٍ بحكم رب العالمين، قال تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85).
 ويتبع ذلك اليقين بأن الله ناصرُ هذا الدين، وأهله المتمسكين به كما أمر وشرع،وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة مبينةً بقاءَ هذا الدين وأتباعه، ونصرهم إلى أن تقوم الساعة، وعليه فالمستقبل- على كل الأحوال- لدين الإسلام.
وعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقائق، وهم يقدمون دينهم إلى العالمين جميعاً، هدى ونوراً ورحمة وإنقاذاً لهم من عذاب الله تعالى، وأن يتمسكوا به وهم يواجهون أصناف الكفار والأعداء، على مختلف عقائدهم ومللهم ونحلهم.
الثالث : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية، كما فعل رسول الله e وصحابته الكرام وهذا يقتضي:
 أ - العمل بهذا الدين وتطبيقه في واقع حياتنا الخاصة والعامة، علماً وعملاً، عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملات ،حكاماً ومحكومين،ولنعلم أنه مالم نعمل بهذا في خاصة أنفسنا نحن المسلمين، فلن نستطيع تقديم هذا الدين للآخرين ودعوتهم إليه.
ب -الأخذ بالأسباب المادية التي أمر بها شرعنا الحنيف، فهي في النهاية شرعيةٌ مادية، وذلك بأن نأخذ بأسباب ووسائل القوةِ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وذلك في جميع المجالات المختلفة الاجتماعيةِ والزراعيةِ، والصناعيةِ والاقتصادية،والتقنية على مختلف فروعها.
وديننا والحمد لله لم يعرف- قديماً أو حديثاً- الصراعَ بين حقائقهِ الثابتة، والعلمُ المادي الصحيح النافع !! وإن كانت التيارات العلمانية في العالم الإسلامي- تقليداً لظروف علمانيةَ الغرب، وصراع الكنيسة والعلم عندهم، تحاول أن تنقل الصراع نفسهُ إلى عالم الإسلام والمسلمين، نظراً لبغضها وحقدها على دين الإسلام، وجهل بعضهم به.
 ودين الإسلام إنما يحاربُ إلحاد الغرب وزندقته،وانحرافه وتحلله وضلاله، واستعماره وظلمه، وحربه الضروس ضد الإسلام أمام التقدم العلمي المادي النافع- على مختلف تخصصاته وفروعه- فهو من أكبر الداعين إليه .
وها هي شواهد  حضارة الإسلام تدلُ على ذلك.

الأحد، 25 سبتمبر 2011

إلى إخواننا في سوريا .... أعتقد لم يبق وقت السلمية

ـ قد يكون الكلام في هذا الموضوع شائكًا أو مرفوضًا من قطاعات واسعة من المحللين والمراقبين، ففكرة سلمية المظاهرات المطالبة بإسقاط الأنظمة الاستبدادية قد لاقت رواجًا منذ نجاح ثورتي مصر وتونس، لذلك نرى الكثيرين يؤيدون هذه الفكرة ويرونها الأمثل في التعامل مع الأنظمة الفاسدة في المنطقة، يرون أن الدعوة لعسكرة الثورات نوعٌ من الانتحار، وإعطاء الفرصة والحجة للأنظمة الاستبدادية لقتل شعوبها وذبح أبنائها، كأن هذه الأنظمة طاهرة اليد والعهدة من السفك والقتل والتنكيل!، ولكن بقليل من التروي والنظر في القضية، وباستصحاب التجربة التاريخية لفكرة سلمية الثورات، نجد أن هذه الفكرة لم تنجح أبدًا إلا في حالة واحدة؛ وهي خروج معظم الشعب في الشوارع بأعداد مليونية مثلما حدث في الثورة المصرية، يصعب عندها على أشد الأنظمة فسادًا وطغيانًا وديكتاتورية أن توقفها وتمنعها، ولكن أن تنجح هكذا مجردة وحدها هكذا، فهذا لم يحدث تاريخيًّا قط حتى وقتنا الحاضر.  ـ يعتبر الزعيم الهندي "المهاتما غاندي" أول من ابتدع فكرة سلمية الثورات، أو سياسة اللاعنف مع الاحتلال الإنجليزي، وهذه الفكرة لاقت قبولاً عند الإنجليز أنفسهم وشجعوها وروجوها في معسكراتهم في أفريقيا وآسيا، ومجدوا "غاندي" من أجلها وجعلوه زعيمًا ملهمًا للهنود، وذلك لمواجهة كفاح المسلمين وجهادهم العسكري ضد الاحتلال الإنجليزي، والعجيب أن الإنجليز أنفسهم قد رفضوا هذه الفكرة واستهجنوها بشدة، عندما طرحها "غاندي" عليهم عند اشتعال الحرب العالمية الثانية، كما ذكر ذلك نائب الملك الإنجليزي على الهند اللورد "كلمنت" في مذكراته، والهند لم تنل استقلالها بسلمية "غاندي" أو سياسته في اللاعنف، ولكن بسواعد أبطال المسلمين في كشمير وحيدر آباد والبنغال، وفي إطار تسوية دولية تم بها تقسيم الهند الكبرى بين المسلمين والهندوس، كي يدركوا الهند قبل أن تعود تحت حكم المسلمين كما كانت وقت دخول الاحتلال الإنجليزي.  ـ سلمية الثورات نجحت في مصر وتونس بسبب خروج قطاعات كبيرة من الشعب في عصيان مدني كبير، وأعداد ضخمة لا يقوى أي نظام مهما أوتي من جبروت وعنف وطغيان أن يقف أمام هذه الملايين الثائرة، غير ذلك فإن سلمية الثورات لن تحقق أهدافها من تغيير الأنظمة الفاسدة الاستبدادية، طالما تحركت فئات من الشعب دون أخرى، ومدن دون أخرى وهكذا، وغاية إنجازها تعاطف دولي أجوف منزوع الفعل والتأثير، في ظل تحالفات واتفاقيات ومصالح متبادلة وأصول اللعبة الدولية التي عادةً لا تبالي بالشعوب الضعيفة أو المقهورة.  ـ في  سوريا مضت على الثورة السلمية فيها ستة شهور، والنتيجة قبض الريح وآلاف القتلى والجرحى وعشرات الألوف من المعتقلين والمفقودين، والثورة لم تستطع أن تحقق شيئًا ملموسًا على  أرض الواقع، فأعداد القتلى والجرحى والمعتقلين في ازدياد يومًا بعد يوم، وقوات الأمن تزداد وحشيتها وبربريتها كلما زادت أعداد المتظاهرين، والتعاطف الدولي يراوح بين أقدامه، وأحلام التدخل الخارجي مثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، ففرنسا أكثر الدول الأوروبية تشددًا حيال نظام الأسد في سوريا، والتي دأب رئيسها المتصهين "ساركوزي" على وصف نظامها بأنه فاقد الشرعية، وفي  حكم المنتهي، هذا المتصهين  طمأن الأسد الصغير بأن التدخل العسكري في سوريا غير وارد مطلقًا، وروسيا والصين يقفان في وجه أية محاولات استعراضية لفرض حصار أو عقوبات على سوريا من قبل الهيئات الدولية، والرحلات الترفيهية لمسئولي الصليب الأحمر إلى السجون السورية الفارغة تثير الضحك من شدة الأسى، وآخر فصول المهزلة الدولية في معاقبة سوريا؛ مسرحية مقاطعة النفط السوري من باب الضغط على النظام السوري، والتي في حقيقتها لا تقاطع أحدًا ولا تمنع نقطة بترول واحدة من الخروج من سوريا، أما ثالثة الأثافي؛ فموقف جامعة الدول العربية من أحداث سوريا وما قبلها والذي كان بمثابة شهادة وفاة لهذا الجسد الواهن العاجز الذي ختم حياته بأسوأ ختام، بانحيازه للأنظمة الديكتاتورية الفاسدة.  ـ غير ذلك فإن محاولات تشكيل مجالس انتقالية لإدارة الثورة من المعارضين تتعرض كل يوم لنكسات جديدة بسبب وجود تيارين للمعارضة: المعارضة الخارجية وتشمل معظم المعارضين الأقوياء للنظام الأسدي، ولكنها فشلت حتى الآن في توحيد جهودها وتشكيل مجلس لقيادة الثورة، وقد عقدت عدة  مؤتمرات  في إنطاليا وأنقرة وإسطنبول والدوحة وبروكسل من دون التوصل بعد إلى هيئة موحدة تمثل الثورة السورية. وقال سمير العيطة - مدير تحرير لوموند ديبلوماتيك بالعربية في هذا الإطار -: "هناك ضرورة لتوحيد الجهود حتى تحصل لحظة التغيير" داعيًا المعارضة بمختلف أطيافها إلى "أن تتوحد على أهداف مشتركة". والأدهى من ذلك أن برز خلاف واضح بين التيارات الإسلامية والعلمانية في المعارضة الخارجية كان أبرز تجلياته يوم السبت 17 سبتمبر الماضي في باريس حيث عقد اجتماع ضم ممثلين لحركات وهيئات علمانية سورية معارضة أعلنوا ولادة ائتلاف القوى العلمانية والديمقراطية السورية، لإبراز الحيثية العلمانية التي يتمتعون بها أمام حركة ناشطة للتيار الإسلامي في صفوف المعارضة الخارجية.  أما المعارضة الداخلية فيعتري أداءَها كثيرٌ من الريب والشك، فهي تشبه لحدٍّ كبير المعارضة الكرتونية التي كانت الأنظمة الاستبدادية البائدة في مصر وتونس تنشئها وتسمح بقيامها من أجل استكمال ديكورات المشهد السياسي الهزلي في أنظمتها الفاسدة، بل لنا أن نتساءل بدل المرة عدة مرات عن جدية هذه المعارضة ودورها الحقيقي، والطعن في مصداقية هذه المعارضة ليس من قبيل الوسواس والظنون الكاذبة أو الاتهامات الجائرة، بل هو حقيقة لا يماري فيها أحد يعرفها السوريون أكثر من غيرهم، فمقررات وتوصيات مؤتمرات معارضة الداخل دائمًا تصب في صالح بقاء النظام، وتحميل الأزمة على تهور الأجهزة الأمنية، وبعض المسئولين الكبار في النظام الذي يمسك بكل خيوطه وقراراته الأسد الصغير.  ومن هنا نتساءل: كيف أمكن لثلاثمائة معارض سوري داخلي أن يجتمعوا  في هذا المؤتمر الذي انعقد السبت 17 سبتمبر ـ لاحظ نفس تاريخ انعقاد مؤتمر معارضة الخارج في باريس ــ  في بلدة "حلبون" في ريف دمشق بدعوة من هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطية، التي تضم أحزابًا "قومية عربية" وأخرى "اشتراكية وماركسية"، إضافة إلى أحزاب كردية وشخصيات مستقلة؟! كيف عقدوا مثل هذا الاجتماع الموسع والكبير في ظل الحملات الأمنية العاتية على كل المدن والقرى السورية؟!  ثم ما هذه المقررات المريبة التي خرج بها هذا المؤتمر الأشد ريبة؟ فهذا المؤتمر لم يخرج سوى بتوصيتين أكد عليهما أشد التأكيد؛ أولهما ضرورة الحفاظ على سلمية المظاهرات وعدم الانجرار وراء دعاوى جيش سوريا الحر الذي شكَّله الضباط السنَّة المنشقون عن الجيش السوري الذي يغلب عليه النصيريون العلويون، بحمل السلاح وعسكرة الثورة، وشدد البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الذي تلاه عبد العزيز خير على ضرورة "انخراط جميع القوى في الثورة" مع التمسك بإبقاء طابعها السلمي. وجاء في البيان أن "العامل الحاسم في حصول التغيير الوطني الديمقراطي بما يعنيه من إسقاط النظام الاستبدادي الأمني الفاسد هو استمرار الثورة السلمية للشعب السوري".  والثانية: أن الثورة غير معنية باجتثاث حزب البعث والجبهة القومية والقيادة القطرية، على الرغم من أنها المسئولة مسئولية كاملة عن مجازر السوريين، وأنه من الممكن التعايش معهم والعمل من خلالهم، فقد قال حسن عبد العظيم المنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية في مؤتمر صحافي عقده الأحد في دمشق لإعلان نتائج الاجتماع أن "النظام الاستبدادي الأمني لا بد أن ينتهي. ولكن لا يعني ذلك اجتثاث أحزاب البعث والجبهة".  فهل هذه مقررات وتوصيات تُسكت آهات الثكالى، وأنين الجرحى، وتكفكف دموع من فقدوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم، وتوقف بحور الدم السوري المسفوك ليل نهار، وتطفئ نار من امتُهنت كرامته وضرب بالأحذية على مرأى ومسمع من العالم بأسره؟ أم أنها عبارة عن ملهاة استعراضية الغرض الوحيد منها وقف بوادر الكفاح المسلح الذي ظهرت في آفاق الثورة بتشكيل جيش سوريا الحر؟  الحقيقة التي لابد أن يعيها السوريون الأحرار الراغبون في التخلص من حكم أشد طغاة العصر وأكثرهم وحشية أن سلمية الثورة لن تؤدي أبدًا إلى نجاحها، وأن الرهان على التدخل الخارجي والضغط الدولي رهان خاسر، فالأسد الصغير يعرف جيدًا قواعد اللعبة الدولية وأحسن استخدامها في تكريس استبداده وطغيانه، وسوريا ليست بالثراء اللازم والغني الكافي حتى يطبق عليها أباطرة الاستعمار المعاصر نظرية "دمِّر ثم عمِّر" وبالتالي لن يتدخل الغرب والمؤسسات الدولية بأكثر مما تدخلوا به، طالما ظل الأسد ملتزمًا بقواعد اللعبة الدولية ويستمر في دعمه لمشروع الهلال الشيعي الإيراني، وفي قهره لأهل السنة، وفي ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني.  أيها السوريون الأحرار؛ إن استمرار السلمية لن تؤدي إلا إلى مزيد من القهر والقتل والإذلال، وإن عسكرة الثورة ودعم جيش سوريا الحر هو الحل الأمثل للخروج من نفق المصير المظلم لهذه الثورة المباركة، فإما أن يخرج السوريون جميعًا كما حدث من إخوانهم المصريين، وإما أن يحملوا السلاح كما حدث من إخوانهم الليبيين، وإما أن يعودوا إلى بيوتهم ويرضوا بالذل والظلم والاستبداد، غير ذلك سيكون مصيرهم مثل مصير بني جلدتهم في حلب وحماة وحمص في الثمانينيات، وهم أدرى الناس بما جرى لهم.

الخميس، 22 سبتمبر 2011

مثال قرآني لثورة الشباب .... (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأزعم أننا لن نُحرِّك العالم حتى نحرك الشباب، هذا ما أعتقده في خلجات نفسي، أمة أُخرجت للناس كافة، وقود نهضتها هو الشباب.

دائمًا ما كنت أقف عند الترتيب المعجز لقصص سورة الكهف، ودائمًا ما كنت أستشعر هالة الانبهار من الفتح الإيماني العمراني الحضاري لذي القرنين، ولكن الحكيم الخبير -جل وعلا- لم يبدأ به السورة، ولكنها بداية كل أمة في رحلتها الحضارية لصناعة ذي القرنين، البداية بالفتية، وتأمل هذه الشهادة.. ويا لها من شهادة: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف:13).

نقل العلامة "محب الدين الخطيب" -رحمه الله- في مجلته التراثية الهائلة "الزهراء" عن المستر "فورد"، نعم "هنري فورد"، وبالتقدم للسلفية وانفتاحها المنضبط في زمنه في العشرينات قال: "أشد فقر يمكن أن يلحق بالأمة هو الفقر بالرجال، فالأمم تستطيع أن تعالج الفقر في جميع الأمور الأخرى، أما إذا أُصيبت بقحط في الرجال الذين يقودون الأمة فذلك من أدهى المصائب".

فماذا لو كان الفقر في الشباب؟!

ذكرنا في المقال السابق "داود المنتظر"، وانتهينا إلى سؤال عن سر تغيبه واختفائه من ساحة الإنجاز الحضاري في ركب أمته، ولعل الله أن يمن علينا ونجد الإجابة..

يُلخص الخبير الإستراتيجي الدكتور "جاسم سلطان" -حفظه الله- مشكلات شباب الأمة، ويحصرها في ثلاث مشكلات رئيسية؛ أما الأولى فهي: "لا أقدر"، وأما الثانية فهي: "بماذا أقوم؟"، وأما الثالثة فهي: "فما الفائدة؟".

ولعل "القارئ الكريم" سمعها من نفسه أو من غيره حين يسأل عن سر غيابه؛ فتجد الإجابة الأولى هي المقدمة: "لا أقدر". فإذا قدر بعد أن تم تدمير المشكلة الأولى برزت الثانية: "بماذا أقوم؟". وربما تبعتها الثالثة في حوار واحد؛ وحتى لو قمت: "فما الفائدة؟". والله المستعان على الإنسان والأوطان.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:7-8)، قال عنها: (هَذِهِ الآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ) (متفق عليه).

ولعل الحلول الثلاثة للمشكلات الثلاث في هذه الآية الفاذة الجامعة.

المشكلة الأولى: (لا أقدر):

أقول لك: فرق بين عدم القدرة وعدم الإرادة؛ لأن الخلط الواضح بينهم مشكلة داخل مشكلة، فالبعض يقول: إنه لا يقدر، ولكن الواقع الأمَر أنه لا يريد، وقد قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) (التوبة:46)، فلو كانت رغبتهم الداخلية مشتعلة لوُفقوا إلى الأمر -بإذن الله تعالى-، هذا أولاً.

أما ثانيًا: فأقول لك ألا تقدر على ذرة إذن؟ إذا قلتَ: نعم. أقول لك: إذن فسترى الخير بها، وإذا قلتَ: لا، أقول لك: فأنت تقدر على ذرة الشر! والآية تقول لك: (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:8)، فقط حوِّل بوصلة قدرتك إلى ذرة الخير -والله يبارك-، ولعل اسم الله الشكور يكون هو الاسم الذي يحتاج كل مَن واجه هذه المشكلة الأولى إلى تدبره، فهو يعطي -جل وعلا- الكثير من الثواب على القليل من العمل، ويقبل القليل من الشكر على الكثير مِن النعم -سبحانه في علاه-، فهذه الآية تقول لنا: "لا تنظر إلى صغر الطاعة، ولكن انظر إلى العظيم الشكور الذي أطعته".

فاستعن بالله ولا تعجز، وقد قال العلامة المفسر السعدي -رحمه الله-: "رحم الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة".

المشكلة الثانية: (بماذا أقوم؟):

أجيبك بنفس الآية.. قم بالذرة، ولعل هذه الذرة تكون جالوتك المنتظر.

المشكلة الثالثة: (ما الفائدة؟):

أجيبك بنص قطعي الدلالة، الفائدة: (خَيْرًا يَرَهُ).

في بعض الأحيان يُدخلنا عجزنا وكسلنا في "المعادلة الرديئة" كما يسميها الدكتور "عبد الكريم بكار" -حفظه الله-، وهي: "ما هو ممكن لا نريده، وما نريده ليس ممكن" إذن ما الحل؟ أوقف العمل.

وهذا يذكرني بقول أحد الشعراء حين سأل عن توقفه عن كتابة شعره المتميز فأجاب: "ما يأتيني لا أريده، وما أريده لا يأتيني". فتوقف، ويا لها من حيلة نفسية متكررة متأصلة في نفس الأفراد والجماعات.

الممكن "عدم الشرب من النهر"، وما تريده "سرعة قتل جالوت"، ولكنه ليس بالإمكان الآن، إذن الحل: إما الشرب من النهر أو ربما ترك الجيش من غير شرب.

ما هو ممكن قم بدورك في دعوتك، أنر المساحة التي تحتك، جوِّد عملك مع الأطفال الذين يحفظون القرآن على يديك، جوِّد خطبتك، بر أمك، اقتل عاداتك السيئة، هذا ما هو ممكن، ولكن الإجابة الاعتيادية: "طموحي فوق ذلك.. تغيير الأمة ونهضتها". وهذا جيد في ظاهره، إذن الحل إجازة مفتوحة؛ لذا قال الدكتور "بكار" -حفظه الله-: "المشكلة ليست في المستحيل الذي نتمناه ولكن في الممكن الذي ضيعناه"!

وكم من ممكن قد ضاع أمام أمواج هذه الحيلة النفسية، والعمل في الممكن درب الأنبياء، والمسلم طموحه لا يقف إلا عند الفردوس الأعلى.

ولأن الشباب دائمًا هم مرمى هدف كل فكر، وهم أرض كل صراع، كان على داود زماننا أن يتأهل تأهيلاً يليق بالمعركة، وأن يكون له همة تليق بالمهمة، فداود زماننا لا يعرف سكون اللغوب أبدًا.

هذا التأهيل يتمحور حول:

أولاً: الفهم الشمولي للإسلام، والبصيرة والإحاطة بدقائق المنهج السلفي لمواجهة الواقع.

ثانيًا: الفقه الراسخ الذي يجيب على تساؤلات العصر وقضاياه، والعقلية الأصولية التي ضبطت بقواعد الفقه وأصوله.

ثالثًا: الفهم العميق للواقع ومعايشة قضاياه، والاندماج مع جميع أفراده، جزء منه يضيف ويشارك لا ينعزل وينقد من بعيد، بل منغمس في واقعه ومجتمعه.

رابعًا: ربانية صافية وتزكية شافية، وربط الأرض بالسماء في كل أفعاله وأقواله، ودقائق سكناته وحركاته.

فخليط المواجه يتلخص في أربعة نقاط تبينًا لا حصرًا: "فهم شمولي للإسلام عميق للمنهج السلفي - فقه راسخ - فهم عميق للواقع - ربانية صافية".

والطريقة العملية الفعالة لفهم هذه النقاط الأربع هي اقتحام حياة أي شخصية مجددة تأثرت بهذا المنهج وأثرت، وستجد هذه النقاط الأربع تطل برأسها في كل مواقفه بدايةً من الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- مرورًا بأحمد بن حنبل، وابن تيمية.. إلى محب الدين الخطيب، ومحمود شاكر، والألباني -رحمهم الله-.

كل واحد منهم كان داود زمانه.. أحدث الفارق وترك الأثر، وخسر العالم بموته الكثير، و"داود" -عليه السلام- النموذج القرآني الواضح لإحداث هذا الفارق في هذه القصة الفارقة من تاريخ بني إسرائيل، في سورة مِن أهم سور القرآن الكريم "سورة البقرة"، ويكفي في فضلها كما يذكر أبوحامد الغزالي -رحمه الله-: "أن من حفظها من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدُّه من العلماء".

وكم شغلني حين نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين بعد أن انفض عنه الجيش إلا قليلاً، فأمر العباس أن ينادي: "يا أهل سورة البقرة"؟!

لعله -صلى الله عليه وسلم- كان يبحث عن داود؟ لا أدري.. ولكن حتمًا من أحدث الفرق من الصحابة حين عاد كان داودي النفسية والمواجهة والفكر.

قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بعد العودة إلى المواجهة: "فما أخذوا معنا حلبة شاه".

كم شغلني السياق القرآني، وكم بهرني الوضع المعجز لقصة طالت وجالوت بين بقية معجزات سورة البقرة المدنية، رغم جو القصة المكي، وتعجبت للجو المكي في وسط سوره مدنية.

ولكن بطل تعجبي حين وجدت صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة الشباب منهم يرتبطون نفسيًا بهذه القصة ارتباطًا وثيقًا عجيبًا، وفي أشد الظروف وأحلكها في أرض المعركة.

روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاثَ مِائَةٍ". تأمل.. يقول: "نَتَحَدَّثُ.. " وكأنه رأي عام!

الله أكبر.. يا للقرآن وأثره في قيادة النفوس، يتملكها.. يهديها للتي هي أقوم، الشباب كان يحتاج إلى هذه القصة في المدينة كما نحتاج نحن إليها في المدينة.. !

وهذا عن أثر القصة العامة، فماذا عن أثر بطلها داود -عليه السلام- خاصة زيد -رضي الله عنه-، لما برز جالوت الترجمة كانت النتيجة تعلم العبرية، وغيرها من اللغات.. ومعاذ ومعوذ أبناء عفراء لما برز جالوت "أبي جهل" كانت النتيجة: "كليهما قتله".

نقلة إستراتيجية من شباب داخل جيش بدر، والمواقف واحدة والأسماء مختلفة، لم يكتئبوا ولم يتوقفوا، بل جنبوا مشاعرهم، ونظروا إلى كل شدة وفتنة وبلاء وكأنها دورة تدريبية مجانية للمواجهة الجالوتية، وانتظروا الفرقة الجالوتية، وعاشوا بنفسية فراش الموت؛ فاختلف الأداء الداودي في الصحابة عن الأداء الداودي في زمننا.

"فيكتور هوجو" له تشبيه مؤلم واقعي يصف فيه الموت: "يرى أن موت الشخص المسن يشبه سفينة وصلت إلى الشاطئ، بينما موت الشاب أشبه بسفينة ضربتها الرياح وسط البحر وحطمتها، كما أن موت الشباب يشبه إلى حد كبير حسب وصفه رواية مثيرة انتهت في منتصفها".

تعجبت حين علمت أن الشيخ "سعيد عبد العظيم" -حفظه الله-، ولا نزكي على الله أحدًا "ذهب إلى 55 مسجد في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يلقى كلمة في كل مسجد"، رغم مرض الشيخ -شفاه الله وعافاه-، فتكلمت مع الشيخ -حفظه الله- عن جنب واستحياء من بعيد، ولم أذكر له بالطبع حادثة العشر الأواخر، ولكن كلمته على علو الهمة فقال لي: "إن الموت يأتي بغتة ونهاية الرواية بيد الله وهو لا يعرفها، ولكن ما يحاول أن يفعله أن يكون بطل كل صفحة في رواية حياته". فعظم عندي كلامه أن حل لي ما أُشكل من كلام "هوجو" -ولله الحمد-.

عن ثابت البناني -رحمه الله- أنه قال: "ما أكثر أحد من ذكر الموت إلا ورؤي ذلك في عمله". آه لشاب مات قبل أن يموت، آه لشاب لم تخسر دعوته بموته شيء، الموت يركض خلفنا ولا بد من عمل، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (الجمعة:8).

حتى نعيش حياة داود لابد أن نحيا كل يوم وكأنه الأخير، "وإن الإنسان الذي يحيا كل يوم كأنه الأخير لا يهتز أبدًا، ولا يفتر أبدًا، ولا يتزين أبدًا".

أخي داود.. استعن بالله ولا تعجز، ولا تحقرن نفسك، ولا تجهل قدر نفسك، فأنت عبد لله الواحد القهار، وحفيد أبي بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وعمر المختار.

إن الإنسان كل إنسان بلا استثناء إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة كما يقول "ويندل هولمز": "الإنسان كما خلقه الله - الإنسان كما يراه الناس - الإنسان كما يري هو نفسه".

قال -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين: (أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) (متفق عليه)، وقال -تعالى- عن أمته -صلى الله عليه وسلم-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران:110).

أخي داود.. مَن لجالوت إن لم يكن أنت؟!

حتى لو لم يرك الناس أهلاً للقضاء على جالوت؛ فلا تحرم نفسك من أن تراها كذلك.

أخي داود.. ابحث عن قضية أكبر منك ثم هب حياتك لأجلها.

ابن هدفك يبنيك هدفك.

وأفضل طريقة للتخطيط للمستقبل إصلاح قرارات اليوم.

أخي داود.. ختام قصتك مع جالوت: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)، يا رب نريد أن نكمل من هذا المعين.

إذن البداية من القرآن.. (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة:252).

قال الشيخ "محمد إسماعيل" -حفظه الله- كلمات تكتب بماء العين: "هذا العصر هو عصر الشباب فهم الحاضر والمستقبل؛ لذا مِن حقهم أن يثوروا، وأن يفرضوا التغيير، لا أن يقترحوه طالما في نطاق الأدب".

أخي داود.. هل ترانا نكون أهلاً لحسن ظن الشيخ -حفظه الله-؟!

الإجابة: تملكها أنت أخي داود.. -والله المستعان-.
د/ أحمد خليل

مثال قرآني لثورة الشباب .... (1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فحتمًا هو لا يراني، ولكنني أراه.. أشعر به حقًا.. أتلمس الهواء الخارج مِن فيه ساخنًا ممتلئًا بحروف صامتة تحتاج إلى لم شتاتها في كلمات.. أراه في كل موقف يتشكل على عين طالوت، والاختبارات الطالوتية لا تحتاج إلى كثير شرح أو توضيح.

(إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) (البقرة:249)، ليته قال: لا يشرب أو حتى لا يقترب من النهر، ولكن وهج الاختبار في التذوق، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف حتى يرتوي، ولكنها ليست مجرد معرفة.. إنها أصوات ألسنة القطرات تصدع بأعلى صوت على لسان وشفاه كل جندي، تقول له: "التهم المزيد"، ولكن القوة في الاغتيال المبكر لحديث النفس، بل لخواطرها، بل لهواجسها.. اختبار لأودت نتيجته بالأكثرية (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (البقرة:249)، ولكن داود -عليه السلام- كان من القليل -ولله الفضل والمنة-.

لعل تمارين الصمت والاتباع قد ظهر أثرها.. لعل تمارين الجندية التي انطلقت من أول القصة وقد كان عنوانها: "جوارح تتبع، وقلوب تُصنع"، تمارين الجندية تؤثر في القلوب قبل الأبدان والجوارح.

أزعم أن مدرسة: (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ) (النساء:77)، كانت مِن أكبر المحاضن التربوية التي صُنع فيها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورضوان الله عليهم.

(كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ) (النساء:77)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يُؤذى، والنخبة تُهاجر إلى الحبشة، وبلال يُعذب، وسمية تقتل أشد قتلة، والقدور تغلي بالقلوب، والكل يتبع وينفذ التعليمات!

وسبحان الله كما قيل: "الدوافع التي نحاول كبتها هي التي تصنع عضلات أقوى".

وسرت هذه القاعدة على داود -عليه السلام-، في صمته، في تأمله لكل موقف، وإحسانه في أداء ما عليه في حراسته لثغره، وقلبه يصنع، والمنتجات القلبية ظهرت في سوق المعركة، بل وتميزت، ولعل أولها كان إنكار الذات.

وإنكار الذات ليس بالأقوال البراقة المنمقة الفصيحة: "أنا أسوأكم.. أنا أقلكم علمًا.. أنا أكثركم ذنوبًا.. "، إنكار الذات منتج قلبي بحت، أن يتيقن كل فرد منا مِن داخله بحاجته لإخوانه، وأنه صفر مِن غيرهم، أن لا تعلن رضاك بدورك فقط، بل تتميز فيه حتى لو كان في غيابات الجيش.

ويا لخالد بن الوليد -رضي الله عنه- في رائعته التاريخية حين لبى أمر أمير المؤمنين الفاروق -رضي الله عنه- بلا أدنى حظ للنفس، أرى بدنه المتبع المجند، ولا أرى قلبه الذي يصنع ليكون في معركته الجالوتية، يا له من قلب انتصر على نفسه في أكثر من معركة قبل أن ينتصر على غيره في الميدان، وكما يقول الراشد: "انتصارات القلوب هي مفتاح انتصارات الميادين"؛ لذا لا تتعجب حين نطقت القلوب المنتصرة حين صرخت: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249).

تأمل: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).. منتج قلبي آخر، ولا تتعجب حين نطقت: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250).

ثم ماذا؟ ثم اللحظة التاريخية.. التحول الإستراتيجي في حياة بني إسرائيل..

الخبر باختصار: "داود الشاب ينهي المعركة، ويقتل جالوت".

ولعل هذه لغة الصحافة، ولكن لغة الإيمان تختلف: "داود القلب ينهي المعركة -بإذن الله-، ويضع منهجًا لقتل كل جالوت".

وبدأت أمجاد بني إسرائيل..

نقطة ومن أول السطر..

أترك أرض المعركة، وأترك بني إسرائيل، وأنتقل بك عبر الزمان والمكان على الهواء مباشرة إلى زماننا الحالي.. إلى عالمنا العربي الغالي.. إلى ما نحن فيه مِن أحداث.. ولعل داود هو أنت أو هي.. لا أدري.. دعني من الأسماء، واتركني مع المعاني.

داود الذي سيحدث الفارق، الذي سيحول الدفة ويحدد الوجهة، ويحيي الأمل باقتدار، صُنع قلبًا قبل أن يصنع جسدًا، أحسن الجندية.. تألق في الإعداد.. عاش لهدف حتى في وسط أرض الجهاد والمعارك والدماء، وهل يصنع الأبطال إلا هناك؟!

لم يكن صفرًا، ولكنه كان رقمًا، علم منذ البداية أنه إن لم يكن له هدف فسيكون جزءًا من أهداف الآخرين، وإن لم يخطط للنجاح فقد خطط للفشل دون أن يدري، فهم المعادلة، قال -تعالى-: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُورًا) (الإسراء:18)، هذا صنف أراد العاجلة وسعى نحوها.

وانظر إلى داود الذي نريد: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) (الإسراء:19)، وضوح في الهدف، ثم انطلاق في الاجتهاد في السعي (سَعَى لَهَا سَعْيَهَا)، وكأني أرى حرف السين درجات سلم كل درجة خطوة في خطة طويلة المدى نحو هدف عظيم، ولكن تأمل الضابط (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) دور العقيدة الأصيل المتأهل (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الإسراء:19)، فَهِم هذا القانون: (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الملك:22)، مكبًا.. وقع؛ لأنه بلا هدف، ولكن صاحب الطريق المستقيم نظر إلى العقبات وكأنها حواجز في سباق؛ فزادته حماسة وعملاً.

لم يكن خامل العمل، ولكنه كان متفاعل التحرك، لم يترك لحظات حياته تمر هملاً فشارَك في مشروع بجهده أو بماله أو فكره، أو كان في حد ذاته مشروعًا. ألم يكن عمر -رضي الله عنه- مشروعًا أحيا الله به الأمة؟!

ألم يكن ابن تيمية -رحمه الله- مشروعًا؟! أحد دوائر المعارف حين ترجمت للدولة العباسية (600 سنة و67 خليفة ذكرتها في 25 صفحة، وحين ترجمت لابن تيمية ترجمت له في 40 صفحة، وذكر بعض الباحثين أنه قد صنف عن ابن تيمية ومصنفاته أكثر من 300 كتاب بين رسالة ماجستير، ورسالة دكتوراه.

داود الذي يريد أن يبني هدفه؛ فبناه هدفه..

يقول المفضال عبد الكريم بكار: "إن لم يكن لك هدف فليكن هدفك إيجاد هدف".

أخي داود لعلك لا تراني، ولكني أراك..

لعلني أراك في جامعتك بين الجنود حتى برز جالوت، وكانت نتيجة المعركة: "الأول على الدفعة".

لعلني أراك في نقابتك بين الجنود حتى برز جالوت، وكانت نتيجة المعركة: "نقيب الأطباء".

لعلني أراك خلف شاشتك بين الجنود حتى برز جالوت، وكانت نتيجة المعركة: "موقع ينفع الملايين".

لعلني أراك بين أوراقه حتى برز جالوت، وكانت نتيجة المعركة: "اجتهاد فقهي غيَّر مسار الأمة إلى الأمام".

العالم ينتظر داود المسلم بمشروع يخدم البشرية.. بتحول إستراتيجي يكون إعلانًا رسميًا لعودة الأمة مِن جديد.

هل الذي ابتكر "جوجل"، أو "الفيس بوك"، أو "نوكيا"، أو "هاري بوتر"، أو "نوبل في الفيزياء"، لم يقدم لأمته انتصارًا إستراتيجيًا جالوتيًا؟!

أخي داود..

أمتك تنتظر منك هذه النقلة.. "ثورة الشباب".

الثورة الإيمانية العمرانية الأخلاقية في ميدان الحياة، والعلم، والإعلام، والاقتصاد، والإدارة، والطب، والسياسة، وكل العلوم في حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين.

كم من جالوت يبرز؟ وكم من داود غائب؟

ولكن لماذا يتغيب؟!

فهذا ما ستكون الإجابة عليه في المقال القادم -بإذن الله-.
د/أحمد خليل