ليس في مصر وحدها بل في كثير من البلاد العربية.
وليس العلمانيون فقط بل طوائف كثيرة من المثقفين المختلفين مع التيارات الإسلامية.
ولاشك أن الاستثناء من التعميم لازم،وأن هناك من العلمانيين ومعارضي التيارات الإسلامية من لم يسقط في هذه الحفرة،لكن حديثنا عن النموذج الغالب المسيطر مع إيماننا بوجود الاستثناء .
إذن فنحن نزعم أن طائفة كبيرة من المثقفين المصريين قد كرسوا للاستبداد السياسي عبر عدائهم للتيار الإسلامي.
كيف كان ذلك ؟
هذا هو السؤال الذي سيجيب عنه هذا المقال ..
المختلفون مع التيارات الإسلامية ،والعلمانيون منهم على وجه الخصوص بنوا رؤيتهم السياسية على محاربة الدولة الثيو قراطية ،وعلى تقرير كون الدولة عبر التاريخ الإسلامي كانت دولة ثيو قراطية تسيطر فيها السلطة الدينية على الدولة وتستولي عليها،بما يستدعيه ذلك من فساد سياسي كونت العلمانية رؤاها حوله من النموذج الثيو قراطي الكنسي.
وبالتالي فإن حالة الفساد السياسي التي كانت عليها الدولة الإسلامية والتي ستكون عليها الدولة لو حقق الإسلاميون مبتغاهم = تنبع في نظر العلمانيين من مصادرة السلطة الدينية للسلطة السياسية وتكبيل السلطة الدينية للسلطة السياسية وحدها من حريتها بما يؤدي لتخلف سياسي وفساد عظيم.
هذا هو النموذج التحليلي الذي بنت عليه العلمانية سياستها في التعامل مع التيار الإسلامي،وهو نموذج غير صحيح وغير مطابق لواقع النظم السياسية في التاريخ الإسلامي،والصواب أن الغالب على التاريخ الإسلامي خاصة في الألف عام الأخيرة هو سيطرة السياسي على السلطة الدينية ومحاولة تطويعها أو محاصرتها،وليس العكس.
لكن بناء على نموذجهم المتوهم فقد طغى على الخطاب السياسي لهذا الفريق اتجاه واحد وهو : ضد الإسلاميين .
الآن : هل كانت الدولة القائمة في مصر منذ الثورة الناصرية هي دولة الإسلاميين لذلك يحاربها هذا الفريق؟
الجواب : لا.بل الإسلاميون كيان مستضعف تتفنن الدولة القائمة في تقويض أركانه.
طيب : هل الدولة القائمة دولة حريات وحقوق وديمقراطية عادلة يُخشى من هذا التيار الإسلامي أن يلوث نقاءها ؟
الجواب : لا.بل عاشت مصر أكثر مدة الستين عاماً الفائتة أحد أحط فتراتها السياسية وأكثرها ظلماً واستبداداً واستعباداً.
فماذا يفعل العلمانيون إذاً ؟
الجواب : لقد كرس العلمانيون للاستبداد السياسي في مصر،وساعدوا على تثبيت أركان الأنظمة السياسية الظالمة والتي تفننت في إهدار حرية وكرامة الشعب المصري ،وأدار الخطاب العلماني –في أكثر أحواله- ظهره لإرهاب الدولة وتفرغ تفرغاً شبه تام للتيار الإسلامي يخوض معه حرب الأيديولوجية تاركاً مصر فريسة للطغاة،بل ومهادناً لأولئك الطغاة ومداهناً لهم أكثر الأحايين.
بل وعلى حد تعبير أحد المثقفين المصريين من غير الإسلاميين : فقد عقد المثقفون المصريون صفقة غير مكتوبة مع النظام قوامها سكوتهم عن معارضة النظام معارضة تناسب طغيانه-أو عدم معارضته بالمرة- مقابل قمع النظام للأعداء المشتركين المتمثلين في التيار الإسلامي.
وتولى أعمدة الليبرالية والقومية والعلمانية في مصر مناصب هامة ومؤثرة يتفيئون بها في ظلال النظام المصري البائد.
فكان الدكتور مصطفى الفقي في موقعه السياسي البارز،وكان نجاحه في دائرته مضموناً رغم قوة وشعبية منافسه جمال حشمت،ولا ينازع أحد في عمليات التزوير التي كانت تجري في هذه الدائرة.
وكان الدكتور عبد المنعم سعيد الذي أملك في مكتبتي حوالي خمسة كتب له تدور كله حول دعم الأفكار الليبرالية والديمقراطية = رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام التي لم تكن فبركة الصورة الشهيرة ولا تغطيتها للثورة بأبسط خطاياها.
أما الدكتور جابر عصفور فكانت موافقته على تولي وزارة الثقافة بمثابة الصدمة لأكثر المثقفين الليبراليين لا في مصر وحدها بل في العالم العربي كله،قبل أن ينقذ نفسه بالاستقالة التي لم تخرج عن كونها إنعاشاً إكلينيكياً.
ليست هذه الأسماء إلا أقل من عُشر النماذج التي كانت أعمدة وأركاناً للنظام المصري الاستبدادي البائد على رغم من ليبرالية بعضهم وقومية بعضهم؛ فقد تعددت مشاربهم وعداء التيارات الإسلامية بينهم مشترك واحد.
أحسسنا أحياناً من شدة صولة معادي التيار الإسلامي في مصر أننا في دولة إسلامية ثيوقراطية،وأن هؤلاء هم حاملو مشاعل التنوير ليخرجوا الشعوب من ظلمات الدولة المستبدة التي تحكمهم إلى نور الحرية والإخاء والمساواة ودولة الحق والقانون.
أو أننا نعيش في دولة الحق والقانون والديمقراطية العادلة ،وأن الإسلاميين يحاربون هذا النموذج القائم يريدون القضاء عليه،وأن الجماعة المذكور هم حماة دولة الحلم ورعاة بقائها.
لماذا كانت تراودنا هذه الأحلام؟
الجواب: لأن حالة هذه الجماعة المثقفة غريبة فعلاً؛فلو افترضنا أن الإسلاميين بالفعل لا يملكون سوى مشروع دولة ثيوقراطية مستبدة = فالأكيد أن دولة مبارك لم تكن جنة الليبرالية.
والآكد من ذلك أن بين الإسلاميين وقتها وبين التاثير على النظام السياسي للدولة بعد المشرقين،ولئن كان لتلك الثلة من المثقفين مشروعاً سياسياً ديمقراطياً فكان الأولى أن يتوجهوا به للنظام الحاكم يصلحونه ويعارضونه كما فعل بعضهم إخوانهم الذين احترموا مبادئهم الليبرالية والديمقراطية فلم يغسلوا بها أرجل مبارك،ثم يجففونها بمهاجمة الإسلاميين.
قال صاحبي : بل تلك الجماعة المثقفة التي كرست للاستبداد السياسي في مصر كانت بصفقة السكوت عن استبداد النظام مقابل قمع النظام للإسلاميين أكثر وفاء للتاريخ التنويري من الديمقراطيين المعارضين.
قلت له : كيف؟
فأجابني : لابد أن تقرأ ما كتبه الفيلسوف البريطاني ألفرد آير (A.AYER) في كتابه عن فولتير.
سألته : وماذا قال عن إمام التنويريين ؟
فأجابني : اسمع يا سيدي.
يقول ألفريد آير : ((كان فولتير يجد من السهل أن يغض البصر عن تجاوزات هؤلاء الحكام الذين كانوا يحوزون تقديره واحترامه،ويعتبرهم من قبيل : (المستبدين العادلين).
كان مثلاً يعتبر عصر لويس الرابع عشر عصراً ذهبياً،وهو في كتابه : (تاريخ الإمبراطورية الروسية تحت حكم بطرس الأكبر) يحاول أن يُقلل بشدة من أهمية ما ارتكبه بطرس من فظائع،مدفوعاً بحماسه (أي حماس فولتير) لدور بطرس الأكبر في تحديث وتمدين روسيا..كذلك لم يستطع فولتير قط أن يرى فردريك الأكبر (ملك بروسيا) على حقيقته،أو أن يصفه بما يستحق كمدمن حرب.
أما المثل الصارخ = فنجده في علاقة فولتير بكاثرين إمبراطورة روسيا..فهو يحاول التهوين من شأن قيامها بقتل زوجها،ويكاد يكيل لها الثناء على دورها في تقسيم بولندا،وهو يؤيدها بحماس في حربها ضد سلطان تركيا،كما لو كان دافعها الحقيقي إلى ضم القسطنطينية هو تحرير اليونان.
إن فولتير لم يكن يرى كاثرين إلا من خلال موقفها المؤيد لفلاسفة التنوير (بل كانت تدعمهم مالياً)؛فمادامت كاثرين قد قامت بشراء مكتبة ديدرو لنفسها،وقبلت أن تطعم نفسها ضد الجدري في الوقت الذي كان التطعيم فيه ممنوعاً في فرنسا،ولم تمارس أي عمل من أعمال القهر باسم الدين = فما الذي يهم فولتير من أنها كانت قد غفلت مثلاً عن تحرير الأقنان في روسيا)).
قلت له : هذا نص مهم ولكني أراك أخطأتَ.
قال لي : من أي ناحية ؟
قلت له : يا صديقي ،فولتير سكت عن استبداد وظلم أولئك الملوك مقابل مكاسب إيجابية تساوي تطبيق بعض مبادئه وزيادة مساحة التنوير في أوربا،أما مثقفونا هؤلاء فلا هم عارضوا الاستبداد،ولا هم كسبوا الحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق