الخميس، 15 سبتمبر 2011

بشائر ثورة جديدة لكن هذه المرة على الثوار

تتابعت الأحداث بسرعة البرق خلال الأيام القليلة الماضية، بصورة تقارب تلك التي رأيناها يوم 28 يناير، وانهمرت المستجدات وتوالت على شريط الأخبار أسفل الشاشة، حتى كاد ينسي آخرُها أولَها، وخرجت التحليلات وسطرت أقلام الكتاب مقالات تناقش الأزمة وأسبابها وتداعياتها والحلول المطروحة على الساحة لتجاوزها، فجزى الله خيرًا كل من نصح بصدق وقوّم بإخلاص.

وقد بدا لي أن أتناول ظاهرة لا أظنها تخفى على أحدٍ من الكتاب الأفاضل الذين تناولوا الموضوع بالتحليل، مع أن أحدًا منهم تقريبا لم يتناولها بشيء من البسط، على خطورتها وعظم ما قد يترتب عليها.

 تلك هي ظاهرة تقلص حجم التعاطف مع الثورة في قلوب عامة الشعب المصري، ما يُنذر بعواقب وخيمة، أخفها: فقدان الدعم الشعبي الذي هو وقود الثورة، ما يسهل مهمة خصومها الساعين منذ أول لحظة لتقويضها، وأسودها وأكثرها ظلامية: عودة نظام مبارك تحت أسماء جديدة في غضون شهور قليلة، والبطش بكل الجماعات والحركات الثورية، وبيان ذلك في إشارات عابرة مقتضبة:

أن ثمة حقيقة لا ينبغي أن يماري فيها أشد خلق الله "ثوريةً"، فَطَر الله تعالى العباد عليها، لا يكاد يشذ عنها إنسان، وإنما قد يتفاوت مقدار تحققها بين بني البشر، وهي أن  الإنسان يرغب دوما في الاستقرار، المتمثل بصورة رئيسة في شعوره بالأمن وفي توفر قوت يومه، ولذا فقد قال النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم: (من بات آمنا في سربه، يجد قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها)، وانظر كيف امتنّ الله على قريش حين قال: (فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

إنها تلك الرغبة التي لا يمكن أن يمحوها أحدنا من قلبه مهما حاول، وإنما غاية ما يستطيعه المرء، أن يفاوض نفسه ليقنعها أن تُنحي هذه الرغبة جانبًا لفترة قصيرة جدا، لتطيعه وتدخل –على مضض- في مرحلة انعدام الاستقرار، بعد أن منّاها وأبرم معها العهود على إنهاء هذه المرحلة فور إعلان النصر على الطغاة وتطهير الحياة من الجبابرة وظهور بُشريات المعيشة الكريمة، وساعتها، سندعو تلك الرغبة المكبوتة ونستقبلها ونضيّفها، وقد من الله وتبدّل الحال.

فإذا ما طالت هذه الفترة الانتقالية، فإن النفس تبدأ في التذمر والاضطراب، وكلما كان الوعي بالأهداف التي دخلت النفس من أجلها هذه المرحلة أقل، وكلما بَعُد العهد بآخر تذكير للنفس بتلك الأهداف الثورية السامية –كما هو حال القطاع الأعرض من الشعب-، فإن الرغبة في الاستقرار تبدأ في الصعود مرة أخرى، وتتزايد شيئا فشيئا، خصوصًا إذا لم ير المرء منجزات ملموسة باهرة، تشبع رغبته وتسليه، وخصوصا إذا ما رأى تطورات في الأحداث يتبرأ منها الثوار أنفسهم! حتى تسيطر على قلب الإنسان رغبة جامحة في إزالة كل ما من شأنه أن يؤخر الوصول إلى بر الاستقرار، وتعلن النفس حالة العصيان الشامل على المرحلة الانتقالية وعلى من تسبب في إدخالها فيها!

هذا التحليل النفسي الذي أقدمتُ عليه –بغير تخصص في هذا المجال- يشعر به الواحد منا كما يشعر بالجوع والشبع، فمن كان على غير هذا الوصف، فليعلم أن الله ربما ميّزه عن أقرانه بأمور، ووَهبه من قوة التحمّل ما يصبّره على تحمل المشاق لفترة أطول، ولكنه لا ينبغي أن يعامل الناس بهذا المعيار، ولا أن يلزم غيره بالصعود إلى سقف تحمله هو، فالضعيف سيد الركب، وعليّ أن أراعي قدرات العامة وأنا أقودهم في مرحلة خطيرة كتلك التي نمر بها، وأن أرفق بهم، وإلا انفضوا من حولي وانقلبوا عليّ..

فتلك النفوس التي قادت أجسام المصريين وجوارحهم إلى الميدان في ثورة يناير، ينبغي أن نوقن أنها لن تطيق العيش في ثورة أبد الدهر، وعليه، فإنك ستجد الكثيرين من أولئك الشرفاء البسطاء المخلصين الذين كادت قلوبهم أن تنخلع من فرط سعادتهم يوم 11 فبراير بسقوط مبارك، قد أضحى لسان حالهم اليوم بعد مدّ وتفعيل العمل بقانون الطوارئ: (لم نأمر به ولم يسؤنا)! ذاك القانون الذي كان فرضه من قِبَل نظام مبارك أحد أهم أسباب ثورة يناير، وأحد الدوافع التي أخرجتهم من بيوتهم في جمعة الغضب!

وستجد أيضا عبارات التخوين للحركات والجماعات والأشخاص الفاعلة في الثورة قد بدأت تتزايد بصورة ملحوظة، وستجد اعتصاما –بغض النظر عن موقفنا منه- يُفضّ بالقوة من ميدان التحرير في أول أيام رمضان، والشعب عن بكرة أبيه يؤيد ويبارك.

هذا يا أفاضل نبصره في تعليقات الشباب على الفيس بوك، ذاك الملتقى الذي كان يمثل غرفة عمليات الثورة الميمونة، ومنتدى الشباب الثائر من قبل، فكيف سيكون الحال لو نزلت إلى المواطن البسيط، الذي صار لا يأمن على أهل بيته من البلطجية ويصارع ويكابد المشاق لتحصيل قوت يومه؟ كيف بمواطني الطبقة المتوسطة، الذين يحلمون ببرلمان قائم ورئيس منتخب وجهاز شرطة يحفظ الأمن الداخلي وجيش على الحدود مرابط؟

والنتيجة، أنه كلما طالت هذه الفترة، كلما انتُقصت أرض الثورة من أطرافها، وكلما ضُيّق الخناق على الثوار، ومع شيوع ثقافة الاعتراض التي أفرزتها الحالة الثورية، فليس ببعيد أن تقوم ثورة على الثورة، لا سيما وفلول النظام السابق على هدف واحد مجتمعون وصوبه بدون التفات متجهون، ونحن في فرقة وتشرذم، ومعارك طاحنة لا يلقي لها المواطن العادي بالا، يراها كتراشقٍ بين رجلين من أعلي برجين عاجيين، لا يكاد أحدهما يبصر شيئا من المصائب التي يعيشها الناس على الأرض.

فإن قيل: ولماذا لا تُدرج احتمال أن المجلس العسكري نفسه هو الذي يفتعل الأفاعيل لمد هذه الفترة قدر استطاعته لحاجة في نفسه؟ قلت: قد فعلت وأدرجته، وخلصتُ إلى النتيجة ذاتها، وهي أن أي سعي وأي مطلب يُرفع الآن غير الدعوة إلى إجراء الانتخابات البرلمانية –ولا يعارض هذا "التفاوض" من أجل تعديل قانون الانتخابات- لهو ضرب من العبث ولون من الانحراف عن الجادة، ذلك أن الجميع يدعي أن مطالبه التي يرفعها تتصف (بالتوافقية)، أي أنها محل إجماع كافة القوى الوطنية، فإن كان الأمر كذلك، وكان رافع هذه المطالب صادقًا لا يبتغي غيرها، فينبغي أن يتنازل -تفضلا- أصحاب مقولة: (الإسراع بإجراء الانتخابات سيؤدي إلى سيطرة الإسلاميين على البرلمان) عن ترديدها من الآن فصاعدًا، فالأمر لم يعد يحتمل، والجواب المتبادر إلى الذهن عن هذه المقولة هو أن يقال: وما الضير في ذلك؟! إن كانوا سيحققون الأهداف التي تنشدها ويصدعون بالمطالب التي رفعتها. أوليس الإسلاميون من جملة القوى الوطنية التي تؤيدك في مطالبك "التوافقية"؟ أم هل يلزم أن تدخل أنت وتسيطر بنفسك لترفع هذه المطالب؟ فإن اختار الشعب خلاف الإسلاميين، فإننا أيضا ينبغي أن نحسن بهم الظن ونثق في أنهم سوف يواصلون رفع هذه المطالب، وشتان يا سادة بين رفعها في الميدان وبين رفعها بين جدران البرلمان.

 في الحقيقة، إن الإصرار على ترديد هذه المقولة ليُفقد مرددها المصداقية ويضعف من موقفه ويضعه في حرج شديد.

ثم إن الجميع أيضا متفقون على أن المطالبة بإجراء الانتخابات البرلمانية في وقتها ليس إلا جزءا من دعم الغاية الكبرى، المتمثلة في انتقال السلطة من العسكر إلى المدنيين، ما يتضمن في طياته المطالبة بإسراع إجراء انتخابات الرئاسة، وهذا أيضا ما نطالب به ويطالب به كل صادق، مع أنك ترى أن الفرصة التي توفرت للمرشح الرئاسي الذى يتبنى المشروع الليبرالي أكبر من تلك التي توفرت لمنافسه الذي يتبنى المشروع الإسلامي، فمَن بالله عليك من مرشحي الرئاسة أخذ نصيبًا من الدعاية قبل الثورة وبعدها كذلك الذي ظَفَر به الدكتور البرادعي؟ إنك لو قارنت المرات التي تردد فيها اسمه في الصحافة والإعلام بالمرات التي ترددت فيها أسماء المرشحين الإسلاميين مجتمعين لما وجدت تناسبا أصلا، كما أن حملته الانتخابية وعمل الداعمين له قد بدأ قبل أن يفكر الإسلاميون في الترشح بشهور! ومع ذلك، ندعو –ويدعو المرشحون الإسلاميون أنفسهم- إلى سرعة تحديد موعد انتخابات الرئاسة، فمصلحة البلاد والعباد ينبغي أن تكون فوق كل الاعتبارات، ولو سيطر الجن على البرلمان وحكمنا رجل عادل نزيه من خارج النظام الشمسي!

فلتُزل كل العوائق عن هذا الطريق، وليعمل الجميع على تذليله وتعبيده، حتى نصل إلى بر الأمان، وإلا انهار المعبد على رؤوس الجميع، وعدنا ثلاثين عامًا إلى الوراء.

الحذر الحذر معاشر الثوار، فثورتكم لا تُجهض بقمع أمني ولا بقانون طوارئ، فقد ولّى هذا العهد –بحول الله- إلى غير رجعة، ولكنها قد تُجهض أولًا في قلوب عامة المصريين، فإياكم وما يسوؤهم.

فلتعِ كل التيارات الفاعلة هذه الحقيقة، ولتجتمع على تحقيق هذا المطلب أول النهار، ثم ينصرف كل منا آخره ليدعو إلى مشروعه وينتصر بكل وسيلة مشروعة لرؤيته، تماما كما اجتمع الثوار في يناير على الإطاحة برأس الفساد، مع تمايز رؤية كل منهم للإصلاح واختلاف المرجعية التي يصدر عنها ويعمل وفقها.

هكذا فليكن العمل، وإلا فالقارعة، وضياعُ حلمٍ وحملُ خزيٍ وحسرةٌ وندامة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق