"الإنسان ليس مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود"
يعد السؤال عن الإنسان واحدا من الأسئلة الكبرى كالسؤال عن الكون والغاية من الحياة وماذا بعد الموت وغيرها من الأسئلة التي يسكن الإنسان هاجس الإجابة عليها فهو يجد إلحاحا دائما في نفسه يدفعه لتكوين تصور كامل عن هذه المسائل وبدون هذا التصور يغمر الإنسان قلق وحيرة تجعل مسعاه في الحياة علي غير هدى.
وفي رحلة البحث عن هذه الأجوبة الكلية التي تبني رؤية للكون والحياة نجد عدة طرق يتوسل بها لهذه الغاية:
1-طريق الأديان السماوية حيث يقدم كل دين لمعتنقيه رؤية للحياة ومعنى للوجود الإنساني ويحدد هدفا للإنسان في الكون وينبئه عن قدره ووظيفته.
2-طريق الأساطير والأديان الوضعية التي تقدم هي الأخرى تصورات هي مقبولة عند أصحابها.
3-طريق العقل والعلم التجريبي وهذا الطريق سلكه الغرب بعد الخلوص من عصوره الوسطى المظلمة عليه ولم يرتض بغيره بديلا وشنع على ما سواه من طرق وسماه ميتافيزقيا يجب التخلص منها.
وفي ثنايا هذا الطريق تكونت أنساق فكرية في الوعي الغربي تحاول نظم هذا التصور وتحديده، كل نسق يبتني على نظرة معينة للإنسان وطبيعة علاقته بالكون.
وفي هذه الورقة نحاول مقاربة قيمة الإنسان في النسق الليبرالي:
أولا : الليبرالية وحرية الإنسان:
من الوهلة الأولى يشعر المتعاطي مع المذهب الليبرالي أنه يبحث عن تحرير الإنسان وبالتالي هو يقدر الإنسان ويحترمه ولكن بتدقيق النظر يظهر زيف هذه الدعوى.
1-هل فعلا الليبرالية جاءت لتحرير الإنسان ؟
عندما نتجاوز القراءة المعجمية لمصطلح الليبرالية وننتهج منهج تاريخي لبحث ظروف تشكل المذهب الليبرالي يتبين لنا أن الليبرالية لم تسع لتجسيد مثال الحرية لعيون الحرية أو لرفع قدر الإنسان وإنما ما جرى هو استغلال لمعنى الحرية من أجل خدمة الطبقة البرجوازية التي ستنتقل من الطبيعة التجارية إلى الصناعية وتحتاج لتوفير اليد العاملة وبالتالي كان لابد من المناداة بتحرير العبيد من الأرض لكي تذهب إلي المصنع لتشغيل الآلة لا لكي يتحرر الإنسان فعليا تقديرا له وتقديرا للحرية!
2-الإنسان بين التقدير والحرية:
2-1يعد مصطلح الحرية من أكثر المصطلحات عصيانا علي التعريف والتحديد وقد تنوعت مدلولاته إلى حد التناقض فضلا عن الاختلاف!
فمفهوم الحرية غامض يصعب ضبطه معجميا من خلال قالب دلالي منضبط ومبرؤ من الانزياح
وحتى عرَّابي الليبرالية القدامى والمحدثون لم يجدوا سبيلا إلى تعريفها إلا من خلال المقاربة النفسية فموريس فلامان يقول (إننا نحس أننا أحرار أو أننا لسنا أحرار ) ويضيف (إن الحرية هي رائحة تشم ).
ويقول توكوفيل (يظهر لي أن الحرية تشغل في عالم السياسة الموقع الذي يشغله الهواء في العالم الطبيعي )أي أن الحرية هي هواء نتنفسه وغيابها يحس به مثلما نحس بالاختناق عند نقص الهواء.
هذه المقاربة النفسية عند فلامان وتوكوفيل ليست مبنية من الناحية المعرفية علي أساس مكين إذ جلي أن غياب الحرية ليس كغياب الهواء.
إذا الليبراليون لم يحسموا ولو مدلول للحرية فقد مر مفهوم الحرية في العقل الليبرالي بتطورات مذ عصر الإصلاح الديني مرورا بالنهضة ثم الأنوار حتى الوقت الراهن.
ففي البدء يجب على الليبراليين حسم مفهوم للحرية ثم بعد ذلك يتحدثون عن كونهم أولى بالإنسان من غيرهم إذ إنهم حرروا الإنسان وقدروه !
2-2 من البداهات أن نقول : ليس هناك حرية مطلقة لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للمجتمع فلا إمكانية لتصور قيام مجتمع يجسد مقولة الحرية بمدلولها الإطلاقي أي بلا قيد أو شرط فالحرية بمعناها المطلق ليست سوى فوضى أو يوتوبيا حالمة .
والحياة المجتمعية بما هي حياة أفراد وجماعات متعالقون بروابط ومتخالفون في الأذواق والأفكار والمصالح فلابد لهذه الحياة لكي توجد وتستمر أن تتأسس على قواعد ونظم ينضبط بها فعل الفرد والجماعة.
إذا النظرة المغلوطة التي يمكن تكوينها عن أن تقدير الإنسان يكون بفتح باب الحرية له على مصراعيه إما جهل بالإنسان أو بالحرية أو بهما معا!
ثانيا : الليبرالية والرؤية الاقتصادية للإنسان:
من خلال التأمل في الرؤية الليبرالية ونمطها الثقافي والمجتمعي نجد أنها قامت بقلب دلالي لمعنى ماهية الإنسان من الماهية العاقلة إلي الماهية المالكة فبعدما كان الإنسان كائنا عاقلا صار الإنسان كائنا اقتصاديا وهذه المقولة نقطة الانطلاق لبناء رؤية فلسفية عامة تتعلق بنوع النظرة إلى ماهية الكينونة الإنسانية ككل وهي في أبعادها الغائية تنتهي إلي توكيد نمط الرؤية المادية للإنسان.
وبناء علي هذه الرؤية المادية للإنسان ينطلق العقل الغربي إلى قراءة مادية للذات والوجود قراءة لا تنظر إلى الغايات بل تحول كل كينونة حتى الإنسان نفسه إلي سلعة!
هذه النظرة للإنسان ليست محدودة من حيث تأثيرها بحدود الجغرافيا الغربية وإنما يراد لها أن تعولم وتسود على مختلف الأنساق الثقافية والمجتمعية.
يقول فوكوياما (إذا كان الإنسان هو بالأساس حيوانا اقتصاديا محكوما برغبته وعقله فإن الصيرورة الجدلية للتطور التاريخي يجب أن تكون في المتوسط متماثلة بالنسبة لمختلف المجتمعات والثقافات )من هذا النص نجد :
1-يجعل فوكوياما كون الإنسان حيوانا اقتصاديا مسلمة ينطلق منها وليست محل أخذ ورد !
2-وفقا لمبدأ تطور التاريخ تبعا لجدلية هيجل ينبغي أن تعمم هذه الرؤية علي كل الثقافات الأخرى وهذا ما سماه نهاية التاريخ.
وبالرجوع إلي الخطاب الفلسفي الليبرالي نلاحظ أن المنظرين للفكرة الليبرالية سيختزلون الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية إلي رغبات وأشواق جسدية وتصير كل حاجات الإنسان مجرد رغبات اقتصادية فالذات الإنسانية كينونة مادية لا قلب لها ولا عقل إلا عقل الغريزة وقلب الشهوة !
وقد تجلت آثار هذه الرؤية المادية للإنسان في أسس الاقتصاد الليبرالي فنجد عند آدم سميث كتابه المعدود أبو الاقتصاد الرأسمالي ( ثروة الأمم ) كيف يتأسس على جوهر الحس الليبرالي المتمثل في النفعية حيث لا حديث عن البعد الإنساني في الواقع الاقتصادي بل تعميق للمصلحة الشخصية والفردية فلا يحرك الإنسان إلا محض حظ نفسه ومصلحته يقول سميث (لا نتوقع غذائنا من إحسان الجزار أو صانع الجعة أو الخباز وإنما نتوقعه من عنايتهم بمصلحتهم الخاصة نحن لا نخاطب إنسانيتهم وإنما نخاطب حبهم لذواتهم ).
من نص آدم سميث يتبين كم هي مادية نظرة الليبرالية للإنسان حيث جردته من كل معني امتاز به عن الحيوان ! إذ لا ينتظر منه أن يتحرك بالبذل أو المنع إلا لمصلحته الشخصية ومنفعته المحضة فلا مكان لأي دافع إنساني أخلاقي يحكم تصرف الإنسان فلا يمكن مثلا أن يكون هناك بذل لأجل رعاية فقير أو إحسان إلي محتاج إنما فقط يحكم تصرفي مدى المنفعة التي تعود على شخصي.
وتتجلي هذه اللإنسانية الليبرالية أكثر عند مالتوس الذي يعتبر كتباه ( بحث في مبدأ السكان ) و( مبادئ الاقتصاد السياسي ) الأساس المرجعي الناظم للرؤية الليبرالية الاقتصادية . نتج عن الثورة الصناعية في بريطانيا وقوع هوامش المدن الصناعية في فقر مدقع حيث تركزت فيها اليد العاملة واضطرت الحكومة إلي وضع قانون الإعانة الاجتماعية لمساعدة الفقراء وكان مالتوس من أشد المعارضين لهذا القانون.
موقف آخر لمالتوس يبين كم ينحاز للطبقة الغنية وكرس للملكية الفردية حيث يصب جام غضبه علي الفقراء حيث يعيب عليهم الزواج المبكر والإكثار من النسل وبالتالي هم مسئولون عن فقرهم أما الطبقة الغنية فلها مطلق الحرية أن تتزوج وتتكاثر !
ويتمادي مالتوس في اللإنسانيته حيث يقول بوجوب منع الإعانات المقدمة في المجاعات والكوارث وذلك لكي نقلل من النسل ويفنى الفقراء ويبقي الأغنياء ينعموا برغد الحياة !
انعكست هذه الأفكار المالتوسية علي سياسيي الليبرالية حيث يقول الأمير فيليب زوج ملكة بريطانيا في مقدمة سيرته الذاتية ( لو قدر لي أن أولد مرة أخرى فإنني أتمنى أن أولد على شكل فيروس قاتل لأساهم في حل مشكلة ازدياد السكان ).
إذا ما يلقي احترام ورعاية الليبرالية هم الأغنياء أصحاب رؤوس الأموال أي الإنسان المالك وليس مجرد الإنسان، سعت الليبرالية لتحرير الإنسان المالك لكي يزداد غنى فدعت لعدم تدخل الدولة في العملية الاقتصادية لكي تتراكم ثروات الأغنياء بحرية وتمتلئ خزانهم بالنقود أما الإنسان كإنسان فلا عزاء له في المنظومة الليبرالية ولا حديث عن الحرية كحرية مكفولة لكل البشر.
ثالثا : في الأخلاق الليبرالية:
يمكن مقاربة قيمة الإنسان في النسق الليبرالي عن طريق تحديد مقدار وقيمة عنصر الأخلاق في المنظومة الليبرالية
الأخلاق هي القيم والقواعد التي يجب امتثالها من قٍبل الفرد في سلوكه وعلاقته مع الآخر فهل في الليبرالية أخلاق بهذا المعني ؟
الراجح أن هذا أمر مشكوك فيه حيث المساحة واسعة بين مبدأ الحرية الذي يبتني عليه النسق الليبرالي وبين الأخلاق وما تتضمنه من معنى التقييد والإلزام.
فالليبرالية مذهب يطلق الفردانية من أي ضابط قيمي غير المنفعة المحددة كميا وهذا يتضاد مع أساس القيم الأخلاقية
والناظر في المتن الليبرالي لن يسعفه الحظ لكي يجد في كل نسخه القديم منها والحديث أي حديث نظري أو تطبيقي عن الأخلاق.
فالرؤية الليبرالية للاجتماع مبنية علي أساس تقديس الحرية الشخصية والملكية الفردية رؤية تتقصد الربح المادي والمنفعة
لذلك نجد الليبرالية غير قادرة علي تقديم نمط متكامل للاجتماع لغياب التأسيس النظري والعملي للبعد الأخلاقي الذي هو شرط لإقامة الحياة السليمة.
هذا الفقر الأخلاقي في النسق الليبرالي دفع مؤرخ الليبرالية موريس فلامان أن يدافع عن مذهبه بالقول أنه توجد ما يسميه بالأخلاق العملية فيه.
وبالنظر إلي هذه الأخلاق التي يدعيها فلامان يتبين كم تمتهن الليبرالية الأخلاق وتحولها من كونها معاني ومثلا إلى مادة كمية تقاس فمحاولة تجميله للمذهب زادته قبحا و كشفت عن عوراته بدل من أن تسترها !
فيكفي قراءة محددات الأخلاق العملية عند فلامان لكي نعرف قيمة الأخلاق في النسق الليبرالي.
"يري فلامان أنها :
1-التأكيد علي فعل الادخار والذي يستلزم نوع من التقشف.
2-احترام العقود.
3-المسؤولية بحيث أن الإخفاق البسيط يجب أن يؤدي صاحبه الثمن عليه.
يأخذ الطيب بوعزة على فلامان ملاحظتين علي هذا الطرح:
الأولي شكلية والثانية في المضمون.
أما الشكلية: أن عدد الصفحات التي خصصها فلامان لبحث المسألة الأخلاقية لم تتجاوز صفحة ونصف ! ويكفي هذا دليلا عكسيا على ما يحاول إثباته فدفاعه عن وجود أخلاقية ليبرالية جاء علي قدر من الاحتشام والانكماش والاختزال فكان بذلك دليلا علي غياب ما أراد التوكيد علي حضوره !
أما الثانية : فإن هذه المبادئ الأخلاقية ذاتها التي أعلنها بوصفها برهانا على وجود أخلاق ليبرالية نراها هي ذاتها تفتقر إلى المبدئية الأخلاقية ! حيث أنها مصاغة في لغة تجارية لا تفرق بين التعاقد الإنساني حول مثل الحياة وقيمها وبين التعاقد التجاري القائم علي مفاهيم الثمن والربح " !
إن أقوى برهان على حالة الفقر الأخلاقي التي يعاني منه النسق الليبرالي هو استحضار دفاع رجالها عنها!
بهذه المقاربة للعنصر الأخلاقي في النظرية الليبرالية يتبين قدر الإنسان فعلا من المنظور الليبرالي حيث جعلته ماده تسعى لكسب المادة ولا أكثر ...
خاتمة :
1-الليبرالية لم تحترم الحرية كمثل وقيمة إنسانية وإنما وظفتها لخدمة الرأسمالية.
2-الليبرالية تنادي بحرية الفرد المالك فقط بوصفه قيمة اقتصادية لا بوصفه إنسانا.
3-تنظر الليبرالية إلى الإنسان نظرة مادية كمية بوصفه جسدا لا روح فيه لا يسعى إلا لتحصيل حظوظ نفسه وشهواته.
4-الليبرالية عرفت الإنسان بوصفه كائنا اقتصاديا بدلا من كونه كائن عاقلا.
5-الليبرالية تجنح دوما إلي الطبقات الغنية ولا تتورع عن سحق الفقراء مهما تغنت بشعار العدالة الاجتماعية.
6-تفتقر الليبرالية للمحتوى الأخلاقي الذي به تصلح الحياة ويستقيم العيش الإنساني.
وبعد فهذه نظرة النسق الليبرالي للإنسان كما تقول متونه النظرية وتطبيقاته العملية في جميع نسخه القديم منها والمحدث فهل مذهب يعاملنا بهذه الصورة ويرانا بتلك العين يستحق منا أن ننتهجه في الحياة وندعو إليه ونثني عليه ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق