"الأمور
قد تتشابه عند ورودها، ولكنها تتضح قطعًا عند صدورها" حكمة عربية قديمة،
تعبر بجلاء عما انتهت إليه الثورة الليبية المباركة التي نجحت في الإطاحة
بملك ملوك الحماقة، وعميد الحمقى العرب والأفارقة ـ معمر القذافي ـ،
فالثورة لما انطلقت في 17 فبراير الماضي ضمت الكثير من المرجعيات والأفكار
والثقافات والأطياف والمشارب والأهداف، ضمت الإسلامي والقومي والوطني
والقبلي والعشائري، ضمت من يؤمن بالنموذج الإسلامي وتطبيق الشريعة، وضمت من
يؤمن بالنموذج العلماني وتطبيق الديمقراطية ( بمعناها الغربي)، وضمت
من يؤمن بالحفاظ على هيبة القبيلة والعشيرة، وأيضًا ضمت من يعمل خالصًا
لوجه الله، وفي سبيل نجدة الوطن وتطهير البلاد من المفاسد والطغيان، ومن
يعمل لحسابه الخاص ومن أجل منافع دنيوية من مناصب ورئاسة ووزارة، وهذا
الصنف تحديدًا يكاد أن يكون مقتصرًا على رجال القذافي الذين انقلبوا عليه
وانضموا للثورة بعد انطلاقها، وبعد أن رأوا أن الثورة بدأت في تحقيق مكاسب
على الأرض، وأن عليهم أن يتحركوا سريعًا ويركبوا الموجة قبل أن يجرفهم
التيار وتغرقهم الثورة، كل هذه الأطياف والمشارب حملتهم الثورة وجمعهم
الكفاح ورفقة السلاح، وهذا التباين في مكون الثورة الليبية دفع الثوار
لسرعة التفكير في تشكيل مجلس رئاسي لإدارة الثورة، ومن ثم كان المجلس
الانتقالي برئاسة "مصطفى عبد الجليل " وزير العدل السابق في النظام الليبي،
وهو رجل مشهود له بالنزاهة والاستقامة وأنه من أنصار دولة القانون، ولكن
المشكلة بدأت بدخول بعض أصحاب المصالح الخاصة بعد ذلك في هذا المجلس
الرئاسي الانتقالي.
ــ
هذا الخليط الثوري العجيب لم يكن بنسب متساوية، أو على قدم المساواة بين
جميع الأطياف، فالسمة العامة للثورة كانت السمة الإسلامية القوية التي توصف
من وجهة نظر الكثيرين بالأصولية، ومشهد الملتحين ذوي الملابس الأفغانية
كانت مقررًا يوميًّا على الفضائيات عند نقل أخبار الثورة الليبية، يقض
مضاجع الغرب، ويتاجر به النظام الليبي الأحمق، ويزايد به على الموقف
العدائي للغرب نفسه، ولعل هذه السمة الإسلامية الغالبة هي التي دفعت الغرب
لأن يتحرك سريعًا من أجل احتواء هذه الثورة التي بدا عليها أمارات النجاح
والتوسع، والاستفادة من الأوضاع الليبية القائمة، ومتغيرات الساحة من أجل
تحقيق أعلى درجات الاستفادة وتعزيز المصالح على هذه البقعة الثرية جدًّا من
العالم.
ــ
الغرب قرر تحقيق أعلى استفادة من الأزمة الليبية، وذلك باتباع السياسة
الاستعمارية الجديدة "التدمير من أجل التعمير" وذلك بتدمير أكبر قدر ممكن
من البنية التحتية في البلاد، ثم الاستحواذ على كعكة إعادة التعمير والبناء
مرة أخرى، وهي سياسة دشنتها أمريكا مع العراق، من أجل تشغيل العاطلين في
بلادها، وبيع السلاح الراكد والمكدس في مخازن شركات تصنيع الأسلحة
الأمريكية والأوروبية، ودعم اقتصادياتها المتهاوية وإنقاذها من السقوط
الحتمي، وبالطبع لن تقدم أمريكا وحلفاؤها على مثل هذه السياسة إلا مع الدول
الغنية الثرية صاحبة الاحتياطيات الضخمة من الطاقة والنقد، وهي الدول
القادرة على دفع فاتورة التدمير وإعادة التعمير، مثل العراق وليبيا، أما
الدول الفقيرة مثل الصومال والسودان وغيرها لا يتدخل فيه الغرب مباشرة إنما
عن طريق الوكلاء والعملاء، لأن الفاتورة ستكون باهظة ولا تجد من يدفعها.
ــ
نجحت الثورة الليبية في تحقيق هدفها الاستراتيجي الأول بالإطاحة بالقذافي،
والتسلسل الطبيعي لسير الثورات الطبيعي أن يأخذ الثوار هدنة واستراحة من
أجل الشروع في إقامة دولة العدل والحق والحريات، والتي تتمثل أولى خطواتها
في إجراء انتخابات عادلة ونزيهة تضمن قيام مؤسسات حكم راشدة تمارس دورها
المنوط بها في تسيير دفة الأمور في البلاد المنهكة تحت وطأة الظلم
والاستبداد لأكثر من أربعة عهود، ولكن نظرًا للتباين الكبير في مكونات
الثورة الليبية، ظهرت الخلافات وتباين وجهات النظر بين شركاء الثورة
بالأمس، فرقاء السلطة اليوم، فالتيار
الإسلامي وهو المكون الرئيس للثورة وصاحب الفضل الأول في انتصارها، يريد
أن يرى ثمار كفاحه بتطبيق الشريعة وإقامة دولة إسلامية عصرية تتماشى مع
طموحات ومكونات الشعب الليبي وهويته ومرجعيته، وفي المقابل التيار العلماني
ممثلاً في غالب أعضاء المجلس الانتقالي وجلهم من رجال القذافي السابقين من
القافزين من مركبه قبل غرقها، يريد تطبيق العلمانية والترويج لليبرالية
وموالاة الغرب وفتح الباب على مصراعيه للنفوذ الأمريكي والأوروبي في ليبيا،
وذلك من أجل ضمان مستقبل مزدهر لليبيا حسب وجهة نظرهم.
ــ
الخلاف بين الفريقين ـ الإسلامي والعلماني ـ ينطلق من أرضية مختلفة
بالكلية، فالخلاف الذي على وشك أن يتحول إلى صراع، فهو بين مصالح
وأيدلوجيات، بين من يريد تأمين مستقبله بمنصب أو وزارة أو رئاسة وما يتبعها
من مزايا ومنافع، وبين من يبحث عن تطبيق منهج يؤمن به ويعتقده وعلى
استعداد للموت من أجله، فأين يلتقيان؟ وكيف يجتمعان؟ وهو ما يجعل الأزمة
الليبية مرشحة للانفجار وبقوة، وبدأت بوادر الأزمة بتراشق إعلامي دشنه رأس
حربة المعسكر العلماني "محمود جبريل" رئيس
الوزراء الليبي الفعلي في المجلس الوطني الانتقالي في أول زيارة له
للعاصمة طرابلس منذ الإطاحة بالقذافي في 23 من أغسطس، عندما اتهم الأطراف
الأخرى ـ يقصد الإسلاميين ـ ببدء لعبة سياسية مهددًا بالاستقالة إذا تفجر
الاقتتال داخل الحركة التي أطاحت بالقذافي، وهو ما أغضب الإسلاميين بشدة،
ورد أحد كبار زعماء الإسلاميين في ليبيا وهو الدكتور علي الصلابي الباحث
المعروف، واتهم جبريل وشمام وشلقم وغيرهم من أعضاء المجلس الانتقالي بفرض
أجندات خارجية على الليبيين ومحاولة تفصيل ثياب غريبة عليهم، ومحاولة تكريس
العلمانية والاستبداد مرة أخرى، واتهمهم بتهميش الإسلاميين أصحاب اليد
البيضاء في نجاح الثورة وقادتها الفعليين في تشكيل مؤسسات الحكم، ودعاهم
لتقديم استقالاتهم فورًا، وفي نفس اليوم خرجت مسيرات صغيرة في بني غازي
منددة بتصريحات الصلابي، وتكهربت الأجواء سريعًا في ليبيا، فسارع مصطفى عبد
الجليل بإعلانه أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع في دستور ليبيا
المقبل، وأن الإسلام هو دين الدولة الرسمي لتهدئة الخواطر وتلطيف الأجواء.
ــ
في المقابل دخل الغرب على خط الصراع العلماني ـ الإسلامي في ليبيا مؤيدًا
بطبيعة الحال العلمانيين، فقد حذَّر الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي
(ناتو) أندرس فوغ راسموسن، من خطر وقوع ليبيا في أيدي المتطرفين الإسلاميين
ما لم يتم تشكيل حكومة مستقرة على محمل السرعة. وقال راسموسن في مقابلة مع
صحيفة (ديلي تليجراف) في عددها الصادر الثلاثاء: إن "المتطرفين الإسلاميين
سيحاولون استغلال أي ضعف في ليبيا مع توجه البلد لإعادة بناء نفسه بعد 4
عقود من حكم العقيد معمر القذافي". وأضاف: "لا يمكننا استبعاد احتمال أن
يحاول المتطرفون استغلال الوضع القائم في ليبيا حاليًا والاستفادة من
الفراغ، لكننا نعتقد أن المجلس الوطني الانتقالي صادق في رغبته بنقل البلد
إلى الديمقراطية، على ضوء المحادثات التي أجريناها معه".
ــ
والأشد من هذا الصراع أن صراعًا داخليًّا على وشك الانفجار داخل كل معسكر
على حدة، ففي المعسكر الإسلامي ثمة تنامي لنبرة متشددة ضد بعض رموز العمل
الإسلامي مثل بلحاج القائد العام لكتائب الثوار الليبيين وعضو الجماعة
الإسلامية المقاتلة سابقًا، من جانب رفقاء الماضي، مع بروز دور جديد
للجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة فكريًّا بالجهاد والقاعدة مما يؤثر
بالسلب على حظوظ الإسلاميين في الفترة القادمة، وأيضًا برز خلاف داخل
المعسكر العلماني وانقسم لفريقين: الأول بقيادة مصطفى عبد الجليل ومعه
الوطنيون الراغبون في حلول وسط تجمع بين الفريقين وتحافظ على هوية وأصالة
البلاد، والفريق الثاني بقيادة محمود جبريل الذي يريد علمانية صرفة على
الطراز الأوروبي والأمريكي.
ــ
وحقيقة أن الخلاف الدائر والمتنامي حاليًا في ليبيا ما هو إلا صورة متكررة
ولكنها متسارعة مما يحدث في مصر وفي تونس، ولكن المخاوف والهواجس في ليبيا
أشد وأقوى، فالسلاح منتشر بكثافة في كل مكان في البلاد، والطاغية القذافي
ما زال موجودًا في البلاد لم يتم القبض عليه يؤلب القبائل ويحيك الدسائس،
والمجلس الانتقالي مشكوك في نوايا العديد من أفراده، وقبضة رئيسه نوعًا ما
متراخية، وكتائب الثوار لها تطلعات وطموحات، والجميع يبحث عن دور ما يصوغ
به وجوده ومستقبله في ليبيا الجديدة، وسياسة فرض الأمر الواقع لن تجدي مع
عدم ترجح ميزان قوة لصالح فصيل بعينه، والحل
الأمثل للخروج من أتون صراع قد يعصف بمكتسبات الثورة الأبهظ تكلفة حتى
الآن في سجل ثورات الربيع العربي، يكون بالاحتكام للإرادة الشعبية وترك
الليبيين أنفسهم يختارون من يمثلهم ويعبر عنهم بعيدًا عن التحالفات
والإملاءات والاستقطاب السياسي والعسكري، فالشعب الليبي ليس طفلاً غرًّا لا
يحسن اختياراته، بل هو على درجة من الوعي والبصيرة، جعلته ينتفض بأسره ضد
الطغيان والاستبداد السابق لما أتيحت له الفرصة، واللعب على أوتار التخويف
من سطوة الغرب والتهديد بوقف الدعم الأوروبي وتعطيل مشاريع إعادة الإعمار
لم يعد ينطلي على أحد، فالجميع يعرف أن أوروبا وأمريكا في أمس الحاجة لدعم
اقتصادياتها بما ستجنيه من أرباح وفيرة من الكعكة الليبية التي يتسابق
عليها الأوروبيون الآن، فالشعب الليبي يعرف أين مصلحته، ما هي هويته
ومرجعيته.
فدعوا
الشعوب تختار ولا تفرضوا عليها الواقع فرضًا مخلاًّ، يعيد البلاد إلى عهد
الاستعباد ولكنه الاستعباد الجديد؛ إنه الاستعباد والاستبداد باسم الثورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق