من يتابع الدولة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية منذ صعوده إلى سدة الحكم في عام 2002، لن يستغرب ذلك التطور في العلاقات الخارجية لأنقرة، ولن يفاجأ بذلك التوسع في النفوذ الإقليمي لأردوجان ورفاقه، بل ولن يندهش من ذلك التصعيد مع الكيان الصهيوني وسيعتبره حتميًّا في النهاية أيضًا؛ وذلك لأن "إسرائيل" على عكس ما يرى البعض تعد حجر عثرة أمام التوسع التركي في النفوذ الإقليمي؛ فمنذ اليوم الأول كانت لتركيا استراتيجية واضحة: استعادة النفوذ الإقليمي في مناطق الخلافة العثمانية، وتحول تركيا إلى دولة مركز مرة ثانية. وكل ذلك يتطلب أحد أمرين: إما إزاحة المشكلات من المنطقة بمذهب "تصفير المشكلات" لمهندس السياسة الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، أو بـ "كسر" تلك المشكلات التي تقف حائلاً أمام التمدد الإقليمي التركي، فتركيا تجاه استعادة نفوذها الإقليمي كان حتمًا أن تستخدم نوعي قوتها الناعمة والصلبة، فالقوة الناعمة وسياسة تصفير المشكلات برزت واضحة في علاقات تركيا مع أرمينيا ومع المشكلة الكردية وتصالح أنقرة مع أكراد العراق، وكذلك استعادة العلاقات مع سوريا التي بها العديد من الملفات الشائكة مثل ملف المياه وملف لواء الإسكندرون، بالإضافة إلى بسط الهيمنة الإقليمية التركية بقوتها الناعمة في القوقاز والبلقان، وكل ذلك تم بصورة سلمية ودبلوماسية محترفة، أفرزت تصفير المشكلات مع تلك الدول، مع زيادة النفوذ الإقليمي والقوة الناعمة التركية، بأقل التكاليف والخسائر على الإطلاق.
كما أن تركيا رغبت أيضًا في استخدام قوتها الناعمة في التعامل مع الكيان الصهيوني، حيث هدفت في البداية إلى أن تكون وسيطًا بينه وبين سوريا وفلسطين، من أجل التوصل إلى اتفاقات سلام بين الجانبين كلٍّ على حدة، ولكن جاء العدوان "الإسرائيلي" على غزة بعنجهية وغرور القوة ليحطم تلك الفرصة في استخدام القوة الناعمة، فقد راهنت "إسرائيل" على شبكة تحالفات كل من تركيا و"إسرائيل" مع حلف الأطلسي ومع الدول الغربية، وظنت أن تلك الشبكة من التحالفات سوف تلتف حول تركيا وتمنعها من التحرك الإيجابي لإدانة تلك الحرب، بل وأهانت تركيا بأنها لم تبلغها بقرار الحرب في حين كان مسئولوها في أنقرة يتباحثون عن كيفية التوصل إلى حلول سلمية؛ فكان ذلك بمثابة التحول في السياسة التركية، من التمدد الناعم إلى التمدد الصلب والاصطدام مع تل أبيب. فمنذ العدوان على غزة في أواخر 2008 وبداية 2009، تحولت العلاقة ما بين الطرفين إلى تلاسن كلامي بدءًا من تصريحات إردوجان بأن "إسرائيل" خانته بشن العدوان على غزة، ومرورًا بواقعة ديفوس مع بيريز، وانتهاءً بواقعة "الكرسي المنخفض" وإهانة السفير التركي في تل أبيب، وتحول الصراع إلى دموي مع حادثة أسطول الحرية.
فتركيا هدفها الذي يعرفه الجميع هو زيادة نفوذها الإقليمي، و"إسرائيل" تعي ذلك جيدًا، وبالرغم من سلمية السياسة الخارجية التركية في تعاملها مع "إسرائيل"، إلا أن الكيان الصهيوني علم منذ البداية أن تعظيم النفوذ التركي سيكون بالضرورة خصمًا من النفوذ "الإسرائيلي"، وأنه حتى لو "احتضنت" تركيا مبادرة سلام بينها وبين فلسطين، فإن ذلك هو احتضان بالاعتصار في آن؛ فتركيا العملاقة ومتنامية النفوذ سوف تعصر بين طياتها "إسرائيل" بالضرورة، وهذا ما تنبأ به "الإسرائيليون" مبكرًا، ولذلك عمدوا إلى استخدام أوراقهم التي يلعبون بها، سواء في حلف شمال الأطلسي بالضغط على تركيا، أو بتحريك عملائهم في المنطقة الكردية الجنوبية الشرقية من تركيا لإحداث قلاقل لأنقرة وشغلها بنفسها، كما من المتوقع مع انتقال الصراع إلى المرحلة التالية، أن تزداد شراسة العدو "الإسرائيلي" في التعامل مع تركيا، وذلك سوف يكون في ذروته مع نية تركيا توسيع نفوذها البحري في المتوسط، وذلك لحماية حقول الغاز المكتشفة حديثًا في تلك المنطقة، ولدعم القبارصة الأتراك في صراعهم مع القبارصة اليونانيين الذين عقدوا اتفاقات تنقيب عن الغاز في سواحل قبرص مع تل أبيب بدون الرجوع إلى الشق التركي من الجزيرة.
لذلك فإن ما يحدث الآن ما هو إلا أعراض لتحركات أساسية من تركيا بزيادة نفوذها وبسط هيمنتها على المنطقة، فنفوذها في تنامٍ في سوريا بعد مذابح بشار الأسد وبعد استنجاد السوريين بتركيا سواء عسكريًّا أو معنويًّا بعقد المعارضة لمؤتمراتها بأنقرة، وكذلك تنامٍ في لبنان بعدما زار إردوجان العام الماضي لبنان والتقى اللبنانيين من أصول تركية واستُقبل استقبال الفاتح، كما من المتوقع أن تكتمل الحلقة حول الكيان الصهيوني مع زيارة إردوجان المرتقبة في الثاني عشر من هذا الشهر إلى القاهرة، والتي من المتوقع أن يعقد فيها إردوجان عدة اتفاقات أمنية واستراتيجية مع القاهرة، بفتح الحدود بين البلدين وإلغاء التأشيرات، وكل تلك التحركات من شأنها أن تزيد من النفوذ التركي وتقلص النفوذ "الإسرائيلي" الذي هو في تراجع لعدة أسباب.
أولها: أن إسرائيل تمر باحتجاجات داخلية غير مسبوقة في تاريخها، فالطبقة المتوسطة في الكيان تطالب بمزيد من العدالة الاجتماعية وتوفير الوظائف فيما عرف بثورة الخيام، بل إن الطبقة المتوسطة تطالب بأن يتم تقليص ميزانية الدفاع من أجل الإنفاق على المشروعات الاجتماعية والخدمية، وذلك في ذروة توتر "إسرائيل" مع مصر بعد الثورة، ورغبتها في مضاعفة تأمينها لحدودها الجنوبية التي كان يؤمنها لها حسني مبارك، مما يزيد من الأعباء الأمنية لجيش الاحتلال "الإسرائيلي"، وهذا هو السبب الثاني لتراجع النفوذ "الإسرائيلي"، في الوقت الذي تتضاعف فيه المطالبات الداخلية من أجل مزيد من الإنفاق على المشروعات الاجتماعية، أما السبب الثالث فلأن ذلك يأتي في ظل أزمة مالية خانقة تعاني منها الولايات المتحدة - الحليف الأكبر للكيان الصهيوني - والذي ضاق ذرعًا بالسياسات "الإسرائيلية" في حكومة نتنياهو وليبرمان، حتى عبَّر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت جيتس في تصريحات هي الأولى من نوعها من مسئول سياسي أمريكي، اتهم فيها "إسرائيل" بالجحود وأن سياسة الكيان لا تخدم الولايات المتحدة ولا تخدم تل أبيب، أما السبب الرابع لتقلص النفوذ "الإسرائيلي" فهو الانسحاب الأمريكي من العراق وتراجع نفوذه العسكري في المنطقة، والذي من المتوقع أن يخلق فراغًا استراتيجيًّا قد ترحب أمريكا في أن تملأه تركيا أيضًا، مما سيزيد نفوذها الإقليمي.
كل ذلك يحدث في سياق سياسي آخر شديد الأهمية، وهو نية الفلسطينيين الإعلان عن قيام دولتهم في الأمم المتحدة، والتوقعات بخوض معركة دبلوماسية وسياسية داخل أروقة الأمم المتحدة، من المؤكد أن تركيا ستكون رأس الحربة فيها، بحشد الدول للتصويت للدولة الفلسطينية الوليدة، لتكون عضوًا بالأمم المتحدة، وهو ما قد يقلب الطاولة على الكيان الصهيوني؛ حيث إن فلسطين الآن تتخذ صفة "كيان" داخل الأمم المتحدة، وغير معترف بها رسميًّا، أما إذا تغير التوصيف إلى دولة فإن كل تحركات الكيان الصهيوني سوف تكون مدانة سواء بزيادة الاستيطان أو بالاعتداء على غزة أو بالتوغل داخل أراضي الدولة الجديدة، التي سوف تصبح محتلة رسميًّا وسوف يمثل ذلك عبئًا سياسيًّا كبيرًا على تل أبيب، بل إن إردوجان بدأ مبكرًا في حملته لعزل الكيان الصهيوني في أثناء جولته الأوروبية، حيث هاجم "إسرائيل" بضراوة من مدريد واتهمها بأنها شريك تجاري يفتقد إلى الأخلاق التجارية أيضًا، بعد أن جمدت "إسرائيل" صفقة الطائرات بدون طيار التي أعادتها أنقرة إلى تل أبيب لإجراء إصلاحات وصيانة لبعض العيوب التشغيلية، ولكنها ماطلت في تسليم الطائرات، وهو ما استدر غضب إردوجان الذي كان بالفعل قد جمد المعاملات العسكرية مع الكيان الصهيوني.
فالشراكة التركية مع الكيان الصهيوني تقتصر أهميتها في أنه يوفر لأنقرة الطائرات المسيرة بدون طيار، والتي تعد أساسية في محاربة مقاتلي حزب العمال الكردستاني في الجبال الوعرة بجنوب شرق البلاد، ولكن تركيا استعاضت عن تلك الطائرات بأخرى صينية، ولذلك فإن "إسرائيل" هي الطرف الخاسر في تلك الحالة؛ حيث كانت تركيا تشتري كل عام معدات عسكرية من "إسرائيل" بمئات الملايين من الدولارات. وقد فضلت مؤخرًا شراء قمر تجسس من إيطاليا، ورفضت شراء قمر من "إسرائيل" على الرغم من أن القمر "الإسرائيلي" أكثر تطورًا وأقل تكلفة، وكتب المعلق الاستراتيجي (الإسرائيلي) "بن بشاي" قائلاً: «تركيا لم تعد شريكًا استراتيجيًّا أمينًا لنا، وهذا يضر بأمننا القومي لأنه يمس بقوة الردع (الإسرائيلية)أمام كلٍّ من سوريا وإيران».
ويبدو أن تركيا لن تخسر شيئًا في لعبة عض الأصابع تلك مع الكيان الصهيوني، فقد استطاعت أن تدير تحالفاتها بصورة جيدة، ووافقت على نصب شبكة رادار لحلف الأطلسي على أراضيها، وتحافظ على أهميتها للاتحاد الأوروبي لأنها تعتبر معبرًا هامًّا للنفط والغاز من روسيا والقوقاز إلى أوروبا الفقيرة في مصادر الطاقة، فقد رمت تركيا منذ أمد ورقة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ولم يعد بأهمية بالنسبة لها، فقد قررت أن تيمم وجهها شرقًا إلى مناطق نفوذها السابقة وأن ترمم علاقاتها مع كافة دول المنطقة، ومن المؤكد أن "إسرائيل" هي حجر عثرة أمام امتداد النفوذ التركي، ولا يتخيل أحد أن تركيا تستطيع أن تحافظ على علاقاتها مع البلدان العربية، شعوبًا وحكومات، وهي تحتفظ في الوقت ذاته بعلاقات دافئة مع الكيان الصهيوني.
تركيا إذن انتقلت إلى المرحلة التالية من اللعبة الاستراتيجية، وبات اللعب على المكشوف مع الكيان الصهيوني، فالمواجهة الآن أصبحت مخضبة بالدماء، وحتى لو اعتذرت "إسرائيل" في النهاية عن قتلى أسطول الحرية والسفينة آفي مرمرة، فإن المخططين الصهاينة يعلمون جيدًا أن ذلك ما هو إلا خطوة مؤقتة وتكتيكية، وأنها لن تستطيع أن تؤخر تقدم النفوذ التركي، لذا هدد أحد مسئولي الأمن القومي "الإسرائيلي" أن تل أبيب يجب أن تكون مستعدةً لحرب شاملة على كافة المحاور قد تستخدم فيها السلاح النووي، وما هذا إلا تهويش بقوة الردع الأساسية لدى الكيان الصهيوني من أجل منع أنقرة من التصادم مع تل أبيب، إلا أن الخيار النووي ذلك لم يعد يخيف أحدًا، فمن المؤكد أن لدى تركيا أسلحة نووية فهي أقرب الأقرباء لدول الاتحاد السوفيتي السابق التي كانت تبيع أسلحتها النووية في السوق السوداء، ومن المؤكد أن عددًا من الدول تمتلك ذلك السلاح ولم تعلن عنه.
وإذا كانت تركيا ستتمتع بالحنكة في اللعب في المرحلة الثانية كما أجادته في المرحلة الأولى، وكما أجادت استخدام قوتها الناعمة فمن المتوقع أن تجيد استخدام قوتها الصلبة أيضًا، وأن تجبر "إسرائيل" على التصرف كما تحب تركيا، لا سيما إذا دخلت على الخط دول عربية جديدة وهي سوريا ومصر وليبيا وتونس واليمن، بحكوماتها المنتخبة المعبرة عن إرادة شعوبها، وكل ذلك من شأنه تضييق الخناق على الكيان الصهيوني، وسيزيد من التفاف الحبل حول رقبته، وأي شد في ذلك الحبل لن يكون في مصلحة الكيان بلا شك، خاصة إذا علمنا أن الحليف الأكبر الولايات المتحدة سيكون مكبلاً هو الآخر حتى آخر 2013 على أقل تقدير بسبب أزمته المالية الطاحنة، وانشغاله بانسحابه من العراق وأفغانستان.
المعادلة أصبحت كالتالي: قوة ناعمة وصلبة لتركيا + قيام الدولة الفلسطينية + انسحاب أمريكي من العراق وأفغانستان + صعود النفوذ الإقليمي للدولة المصرية + المشكلات الاقتصادية الأمريكية + مشكلات اقتصادية واجتماعية داخلية للكيان الصهيوني = عزلة "إسرائيلية" وتقزم في دورها المستقبلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق