بعد حادث اقتحام السفارة الإسرائيلية خرجت البيانات والتصريحات تدين وتشجب وتعترض حفظاً على الصالح العام والأمن الوطني وبعداً عن مصادمات خارجية واتهاماً معتاداً للفلول ( وليس مقصود الكلام تبرئة لهم ) واتهاماً لقوى خارجية في التورط لكن أظن أنه ربما تكون خطوة اقتحام السفارة "الإسرائيلية" في مصر هي الخطوة الإيجابية الأولى على صعيد العلاقات الدولية المصرية منذ اندلاع ثورة 25 يناير... قد يراها البعض انتكاسة، وقد يرى آخرون أنها سُبَّة في جبين مصر لفشلها في تأمين سفارة دولة أجنبية على أرضها، وقد يراها الخارج على أنها مؤشر لاستمرار حالة الفوضى المصرية، ولكنها في النهاية تظل الخطوة الإيجابية الأهم في العلاقات الخارجية لمصر منذ عدة عقود. فمنذ عام 1979 عندما عقد السادات منفردًا اتفاقية سلام "كامب ديفيد" مع الكيان الصهيوني، والشعب المصري مكبل وهو يرى "الإسرائيليين" يمرحون على أرضه، يغتالون أبناءه من الجيش والشرطة في سيناء، يغتالون خيرة علماء مصر في الخارج، يمارسون أقصى أنواع المذابح ضد الشعوب العربية والإسلامية في فلسطين ولبنان وغيرها من البلدان، ظل الشعب المصري مكبلاً لعقود على أيدي أجهزته الأمنية القمعية، حتى استطاع في النهاية أن يقضي على جبروتها في ثورة 25 يناير.
نُشرت الكثير من التعليقات والتصريحات التي تدين هذا العمل وتحذر من خطورته على مستقبل مصر وعلى مستقبل الثورة أيضًا، ولكن على العكس من ذلك، فإن ذلك الحادث ستفوق إيجابياتُه سلبياتِه بكثير، فهذا العمل يعد الحدث الأضخم الذي يسلط الضوء على الانتهاكات "الإسرائيلية" المستمرة ضد حقوق الإنسان في فلسطين وضربها بعرض الحائط لكافة المواثيق والقرارات الدولية، واستمرارها في عمليات القتل اليومي للأبرياء المسلمين، وأصبحنا نرى عناوين قتلانا في الصحف مثل عناوين أخبار الاقتصاد والفن والمنوعات: أصبحت من الكثرة لدرجة أنه لم يعد يصيبنا ألم عندما نقرأ خبر قتيل فلسطيني في غارة "إسرائيلية" على منزل آمن! أصبح الأمر عاديًّا و"روتينيًّا" ولم يعد يلفت انتباه أحد! حتى بين أولئك الذين يزعمون أنهم المدافعون عن حقوق الإنسان حول العالم... فكان لابد من صرخة! وما حدث في سفارة "إسرائيل" بمصر كان أكثر من صرخة، لقد كان مؤشرًا لا تخطئه العين، ولا يقبل الجدال حوله، عن القدر الكبير من الغل والغضب المكتومين بين أضلاع المسلمين من ذلك الكيان الغاصب الذي يعيش على دمائنا ودماء الأبرياء منذ عقود.
ما حدث هو فخر لكل المسلمين لأنه حدث بصورة تلقائية عفوية، لم يتم بتحريضٍ من أحد، لم يتم بدعوة أي طرف على الإطلاق، بل كانت مشاعر عفوية وتلقائية تلك التي دفعت أولئك الشباب إلى التجمهر حول مقر السفارة بالساعات من أجل أن يقتلعوا العلم ويقتحموا السفارة وينثروا أوراقها في الهواء! تلك المشاعر لم تكن وليد اللحظة، ولا الأمس، بل كانت منذ أن قَتل "الإسرائيليون" - بدمٍ باردٍ - نساءنا وأطفالنا في غزة وأحرقوهم بالقنابل الحارقة، منذ مذبحة قانا التي راح ضحيتها المئات من النساء والأطفال الذين كانوا يحتمون بمخيمات الأمم المتحدة! وكانت منذ أن اعتاد "الإسرائيليون" على شرب دماء المسلمين من أجل رفع شعبية انتخابية أو من أجل الحفاظ على قوة "الردع" (الإسرائيلية)... اليوم فقط؛ يجب أن يرى زعماء العالم ما لم يروه من قبل؛ يجب أن يروا اليوم أعين الفلسطينيين المحروقة بالفسفور مع رؤيتهم لاقتحام السفارة "الإسرائيلية" في مصر، واشتعال الحراق حولها، وتناثر أوراقها أدراج الرياح.
هؤلاء الشباب الذين ضحوا بأرواحهم من أجل نزع قطعة من القماش من المؤكد أنهم رأوا فظائع كثيرة في عمرهم القصير! من المؤكد أنهم كانوا يبيتون يبكون قهرًا وهم يرون أخوانهم في فلسطين يُقتلون ويذبحون ويحرقون، ورجل الغرب الديكتاتور المصري المخلوع يغلق عليهم المعابر ويمنعهم حتى من الهروب! من المؤكد أن هؤلاء الشباب رأوا الغرب وهم يمهلون الجلاد وهو يذبح ضحيته بسكين بارد في الحرب على غزة ولم تطرف لهم عين، ولم يرجف لهم جفن، بل انتظروا حتى ينهي مهمته ليعلنوا مؤتمرًا في شرم الشيخ برعاية مبارك من أجل وقف الحرب، هدية له على موقفه، وتلميعًا له أمام شعبه والعالم، وبعد أن تأكدوا أن "إسرائيل" لن تصل إلى مبتغاها، وأن الوقت لن يفيد بشيء، من المؤكد أن أولئك الشباب الذين ضحوا بحياتهم في تلك الأمسية رأوا ما لم ير الغرب، وسمعوا ما لم يسمعوا، وشعروا بما لم يشعروا، فكان لزامًا من تلك الصرخة المدوية التي تعلن للعالم أن الكيل قد فاض، وأن الأمس لن يعود.
يجب أن تفتح تلك الصرخة المدوية آذان العالم أمام المطالب الفلسطينية وأمام الفظائع التي يرتكبها "الإسرائيليون" ليل نهار في فلسطين، ويجب أن تظهر للعالم الغربي الثمن الذي ينتظر دفعه جراء انتهاكات "إسرائيل" وضربها بعرض الحائط لكل القوانين والمواثيق والعهود، يجب أن تكون تلك الحادثة كاشفةً أمام العقلاء من الغرب أننا لا ننام على الضيم، وأنه سيأتي يوم - اقترب أم بَعُد - لكي تدفع "إسرائيل" ثمن انتهاكاتها، عسى أن يكون ذلك تذكرةً للغرب بأن الفيتو الأمريكي سوف تساويه دماء وقلاقل وتوترات، وأنها ليست يد ترفع في غرفة مغلقة، ولكنها لعائن تصب على الجلاد وداعميه، وأنهم من اليوم لن يتعاملوا مع 22 رئيس دولة عربية، بل مع أربعمائة مليون عربي معهم مليار ونصف المليار مسلم، وأن عصر استلام الشعوب لزمام المبادرة وتقرير مصيرها لن يكتم فيه الغضب بين الأضلاع بعد اليوم.
لعل هناك سلبيات كثيرة في حادثة اقتحام السفارة، ولكن في النهاية سوف تتوارى أمام إيجابياتها، ويجب أن تستغلها الحكومات الإسلامية العاقلة إعلاميًّا وسياسيًّا للتأكيد على خطورة المظالم والاستمرار في انتهاك حقوق الشعوب الإسلامية، وأن ما حدث في القاهرة يمكن أن يحدث غدًا في الأردن، وبعده في تونس، وأصبح هناك الكثير مما يدفع المسلمين في كافة البلدان إلى التضامن مع الشعب المصري، في كل العواصم العربية والإسلامية، حتى الدول المستقرة منها، فهذا الفوران الشعبي أصبح مثل الإعصار، لا يمكن لشيء أن يوقفه، ولا يخفى على أحد أن من ضمن ملهبات حماس المتظاهرين حول السفارة كان الموقف التركي بطرد السفير "الإسرائيلي"؛ فالحرية والكرامة أصبحت عدوى محمودة في الربيع العربي، واقتحام السفارة يبدو أنه الهدية الأفضل لإردوجان عشية قدومه إلى القاهرة، إذا لم يتم إلغاء زيارته.
فبقدر ما يضيرني رؤية مصر في وسائل الإعلام الغربية في صورة بلد غارقة في الفوضى، والأوراق تتطاير من بناية السفارة، وانتشار الحرائق في قلب القاهرة، بقدر ما هي دعوة للتفكير والتأمل من مواطني الدول الغربية، ودعوة إلى الناشطين الحقوقيين حول العالم للصدع بالحق وإدانة الكيان الصهيوني، فتلك الحادثة برغم سلبيتها ظاهريًّا، إلا أنها ستشجع مؤيدي فلسطين بالخارج على طرح أفكارهم ورؤاهم وحلولهم للخروج من ذلك المأزق وعدم تكرار ذلك في أية دولة أخرى حول العالم، وتسليط الضوء على الأسباب التي أفرزت ذلك المشهد الدامي.
بل من إيجابيات هذه الخطوة على الصعيد الداخلي أيضًا هو أن وزير الداخلية المصري يجب أن يستقيل بعد هذه الحادثة، وربما يكون كبش فداء "دبلوماسي" لمصالحة الكيان الصهيوني، وهو ثمن مقبول أيضًا لثوار مصر، فقد أثبت أنه غير قادر على تغيير العقلية الأمنية بعدما كشفته حادثة الهجوم على مشجعي النادي الأهلي الذين كانوا يسبون وزير الداخلية السابق قاتل الشهداء، وأثبت العيسوي أن قنابل الغاز تم استيرادها من جديد، وأن العقلية القمعية في مقابل معارضي الرأي لا تزال هي السائدة، وأن دهس المتظاهرين بالمدرعات لا يزال هو أسلوبه في تفريق المتظاهرين، وأن النظام المصري، لا يزال، يجب أن يسقط، ومعه كل بقايا كامب ديفيد ممن في أعلى هرم السلطة في مصر.
لقد جاء اقتحام السفارة "الإسرائيلية" في القاهرة ليعفي المشير طنطاوي - الرئيس الفعلي لمصر - من حرجه، وليرفع عنه مسئولية طرد السفير من القاهرة، فقد غادر السفير وطاقمه غير مأسوف عليه، فهذه هي الدبلوماسية الشعبية الجديدة، فالفوران الشعبي ونبض الجماهير في شوارع القاهرة سيكون بمثابة الوقود الذي سيدفع من على سدة الحكم بالمطالبة بتعديل اتفاقية كامب ديفيد، وبإلغاء اتفاقات تصدير الغاز، وبفعل كل ما كان مستحيلاً في عهد المخلوع، فاقتحام السفارة كما هو من أهم خطوات العلاقات الدولية لمصر في حقبة ما بعد الثورة، فهو مؤشر على أن السلطة عادت للشعب، وهو الآن الذي يقرر من الذي يبقى على أرضه ومن يغادر... فمصر عادت من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق