الخميس، 22 سبتمبر 2011

مثال قرآني لثورة الشباب .... (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فأزعم أننا لن نُحرِّك العالم حتى نحرك الشباب، هذا ما أعتقده في خلجات نفسي، أمة أُخرجت للناس كافة، وقود نهضتها هو الشباب.

دائمًا ما كنت أقف عند الترتيب المعجز لقصص سورة الكهف، ودائمًا ما كنت أستشعر هالة الانبهار من الفتح الإيماني العمراني الحضاري لذي القرنين، ولكن الحكيم الخبير -جل وعلا- لم يبدأ به السورة، ولكنها بداية كل أمة في رحلتها الحضارية لصناعة ذي القرنين، البداية بالفتية، وتأمل هذه الشهادة.. ويا لها من شهادة: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف:13).

نقل العلامة "محب الدين الخطيب" -رحمه الله- في مجلته التراثية الهائلة "الزهراء" عن المستر "فورد"، نعم "هنري فورد"، وبالتقدم للسلفية وانفتاحها المنضبط في زمنه في العشرينات قال: "أشد فقر يمكن أن يلحق بالأمة هو الفقر بالرجال، فالأمم تستطيع أن تعالج الفقر في جميع الأمور الأخرى، أما إذا أُصيبت بقحط في الرجال الذين يقودون الأمة فذلك من أدهى المصائب".

فماذا لو كان الفقر في الشباب؟!

ذكرنا في المقال السابق "داود المنتظر"، وانتهينا إلى سؤال عن سر تغيبه واختفائه من ساحة الإنجاز الحضاري في ركب أمته، ولعل الله أن يمن علينا ونجد الإجابة..

يُلخص الخبير الإستراتيجي الدكتور "جاسم سلطان" -حفظه الله- مشكلات شباب الأمة، ويحصرها في ثلاث مشكلات رئيسية؛ أما الأولى فهي: "لا أقدر"، وأما الثانية فهي: "بماذا أقوم؟"، وأما الثالثة فهي: "فما الفائدة؟".

ولعل "القارئ الكريم" سمعها من نفسه أو من غيره حين يسأل عن سر غيابه؛ فتجد الإجابة الأولى هي المقدمة: "لا أقدر". فإذا قدر بعد أن تم تدمير المشكلة الأولى برزت الثانية: "بماذا أقوم؟". وربما تبعتها الثالثة في حوار واحد؛ وحتى لو قمت: "فما الفائدة؟". والله المستعان على الإنسان والأوطان.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:7-8)، قال عنها: (هَذِهِ الآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ) (متفق عليه).

ولعل الحلول الثلاثة للمشكلات الثلاث في هذه الآية الفاذة الجامعة.

المشكلة الأولى: (لا أقدر):

أقول لك: فرق بين عدم القدرة وعدم الإرادة؛ لأن الخلط الواضح بينهم مشكلة داخل مشكلة، فالبعض يقول: إنه لا يقدر، ولكن الواقع الأمَر أنه لا يريد، وقد قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) (التوبة:46)، فلو كانت رغبتهم الداخلية مشتعلة لوُفقوا إلى الأمر -بإذن الله تعالى-، هذا أولاً.

أما ثانيًا: فأقول لك ألا تقدر على ذرة إذن؟ إذا قلتَ: نعم. أقول لك: إذن فسترى الخير بها، وإذا قلتَ: لا، أقول لك: فأنت تقدر على ذرة الشر! والآية تقول لك: (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:8)، فقط حوِّل بوصلة قدرتك إلى ذرة الخير -والله يبارك-، ولعل اسم الله الشكور يكون هو الاسم الذي يحتاج كل مَن واجه هذه المشكلة الأولى إلى تدبره، فهو يعطي -جل وعلا- الكثير من الثواب على القليل من العمل، ويقبل القليل من الشكر على الكثير مِن النعم -سبحانه في علاه-، فهذه الآية تقول لنا: "لا تنظر إلى صغر الطاعة، ولكن انظر إلى العظيم الشكور الذي أطعته".

فاستعن بالله ولا تعجز، وقد قال العلامة المفسر السعدي -رحمه الله-: "رحم الله من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة".

المشكلة الثانية: (بماذا أقوم؟):

أجيبك بنفس الآية.. قم بالذرة، ولعل هذه الذرة تكون جالوتك المنتظر.

المشكلة الثالثة: (ما الفائدة؟):

أجيبك بنص قطعي الدلالة، الفائدة: (خَيْرًا يَرَهُ).

في بعض الأحيان يُدخلنا عجزنا وكسلنا في "المعادلة الرديئة" كما يسميها الدكتور "عبد الكريم بكار" -حفظه الله-، وهي: "ما هو ممكن لا نريده، وما نريده ليس ممكن" إذن ما الحل؟ أوقف العمل.

وهذا يذكرني بقول أحد الشعراء حين سأل عن توقفه عن كتابة شعره المتميز فأجاب: "ما يأتيني لا أريده، وما أريده لا يأتيني". فتوقف، ويا لها من حيلة نفسية متكررة متأصلة في نفس الأفراد والجماعات.

الممكن "عدم الشرب من النهر"، وما تريده "سرعة قتل جالوت"، ولكنه ليس بالإمكان الآن، إذن الحل: إما الشرب من النهر أو ربما ترك الجيش من غير شرب.

ما هو ممكن قم بدورك في دعوتك، أنر المساحة التي تحتك، جوِّد عملك مع الأطفال الذين يحفظون القرآن على يديك، جوِّد خطبتك، بر أمك، اقتل عاداتك السيئة، هذا ما هو ممكن، ولكن الإجابة الاعتيادية: "طموحي فوق ذلك.. تغيير الأمة ونهضتها". وهذا جيد في ظاهره، إذن الحل إجازة مفتوحة؛ لذا قال الدكتور "بكار" -حفظه الله-: "المشكلة ليست في المستحيل الذي نتمناه ولكن في الممكن الذي ضيعناه"!

وكم من ممكن قد ضاع أمام أمواج هذه الحيلة النفسية، والعمل في الممكن درب الأنبياء، والمسلم طموحه لا يقف إلا عند الفردوس الأعلى.

ولأن الشباب دائمًا هم مرمى هدف كل فكر، وهم أرض كل صراع، كان على داود زماننا أن يتأهل تأهيلاً يليق بالمعركة، وأن يكون له همة تليق بالمهمة، فداود زماننا لا يعرف سكون اللغوب أبدًا.

هذا التأهيل يتمحور حول:

أولاً: الفهم الشمولي للإسلام، والبصيرة والإحاطة بدقائق المنهج السلفي لمواجهة الواقع.

ثانيًا: الفقه الراسخ الذي يجيب على تساؤلات العصر وقضاياه، والعقلية الأصولية التي ضبطت بقواعد الفقه وأصوله.

ثالثًا: الفهم العميق للواقع ومعايشة قضاياه، والاندماج مع جميع أفراده، جزء منه يضيف ويشارك لا ينعزل وينقد من بعيد، بل منغمس في واقعه ومجتمعه.

رابعًا: ربانية صافية وتزكية شافية، وربط الأرض بالسماء في كل أفعاله وأقواله، ودقائق سكناته وحركاته.

فخليط المواجه يتلخص في أربعة نقاط تبينًا لا حصرًا: "فهم شمولي للإسلام عميق للمنهج السلفي - فقه راسخ - فهم عميق للواقع - ربانية صافية".

والطريقة العملية الفعالة لفهم هذه النقاط الأربع هي اقتحام حياة أي شخصية مجددة تأثرت بهذا المنهج وأثرت، وستجد هذه النقاط الأربع تطل برأسها في كل مواقفه بدايةً من الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- مرورًا بأحمد بن حنبل، وابن تيمية.. إلى محب الدين الخطيب، ومحمود شاكر، والألباني -رحمهم الله-.

كل واحد منهم كان داود زمانه.. أحدث الفارق وترك الأثر، وخسر العالم بموته الكثير، و"داود" -عليه السلام- النموذج القرآني الواضح لإحداث هذا الفارق في هذه القصة الفارقة من تاريخ بني إسرائيل، في سورة مِن أهم سور القرآن الكريم "سورة البقرة"، ويكفي في فضلها كما يذكر أبوحامد الغزالي -رحمه الله-: "أن من حفظها من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدُّه من العلماء".

وكم شغلني حين نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين بعد أن انفض عنه الجيش إلا قليلاً، فأمر العباس أن ينادي: "يا أهل سورة البقرة"؟!

لعله -صلى الله عليه وسلم- كان يبحث عن داود؟ لا أدري.. ولكن حتمًا من أحدث الفرق من الصحابة حين عاد كان داودي النفسية والمواجهة والفكر.

قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بعد العودة إلى المواجهة: "فما أخذوا معنا حلبة شاه".

كم شغلني السياق القرآني، وكم بهرني الوضع المعجز لقصة طالت وجالوت بين بقية معجزات سورة البقرة المدنية، رغم جو القصة المكي، وتعجبت للجو المكي في وسط سوره مدنية.

ولكن بطل تعجبي حين وجدت صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاصة الشباب منهم يرتبطون نفسيًا بهذه القصة ارتباطًا وثيقًا عجيبًا، وفي أشد الظروف وأحلكها في أرض المعركة.

روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاثَ مِائَةٍ". تأمل.. يقول: "نَتَحَدَّثُ.. " وكأنه رأي عام!

الله أكبر.. يا للقرآن وأثره في قيادة النفوس، يتملكها.. يهديها للتي هي أقوم، الشباب كان يحتاج إلى هذه القصة في المدينة كما نحتاج نحن إليها في المدينة.. !

وهذا عن أثر القصة العامة، فماذا عن أثر بطلها داود -عليه السلام- خاصة زيد -رضي الله عنه-، لما برز جالوت الترجمة كانت النتيجة تعلم العبرية، وغيرها من اللغات.. ومعاذ ومعوذ أبناء عفراء لما برز جالوت "أبي جهل" كانت النتيجة: "كليهما قتله".

نقلة إستراتيجية من شباب داخل جيش بدر، والمواقف واحدة والأسماء مختلفة، لم يكتئبوا ولم يتوقفوا، بل جنبوا مشاعرهم، ونظروا إلى كل شدة وفتنة وبلاء وكأنها دورة تدريبية مجانية للمواجهة الجالوتية، وانتظروا الفرقة الجالوتية، وعاشوا بنفسية فراش الموت؛ فاختلف الأداء الداودي في الصحابة عن الأداء الداودي في زمننا.

"فيكتور هوجو" له تشبيه مؤلم واقعي يصف فيه الموت: "يرى أن موت الشخص المسن يشبه سفينة وصلت إلى الشاطئ، بينما موت الشاب أشبه بسفينة ضربتها الرياح وسط البحر وحطمتها، كما أن موت الشباب يشبه إلى حد كبير حسب وصفه رواية مثيرة انتهت في منتصفها".

تعجبت حين علمت أن الشيخ "سعيد عبد العظيم" -حفظه الله-، ولا نزكي على الله أحدًا "ذهب إلى 55 مسجد في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يلقى كلمة في كل مسجد"، رغم مرض الشيخ -شفاه الله وعافاه-، فتكلمت مع الشيخ -حفظه الله- عن جنب واستحياء من بعيد، ولم أذكر له بالطبع حادثة العشر الأواخر، ولكن كلمته على علو الهمة فقال لي: "إن الموت يأتي بغتة ونهاية الرواية بيد الله وهو لا يعرفها، ولكن ما يحاول أن يفعله أن يكون بطل كل صفحة في رواية حياته". فعظم عندي كلامه أن حل لي ما أُشكل من كلام "هوجو" -ولله الحمد-.

عن ثابت البناني -رحمه الله- أنه قال: "ما أكثر أحد من ذكر الموت إلا ورؤي ذلك في عمله". آه لشاب مات قبل أن يموت، آه لشاب لم تخسر دعوته بموته شيء، الموت يركض خلفنا ولا بد من عمل، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) (الجمعة:8).

حتى نعيش حياة داود لابد أن نحيا كل يوم وكأنه الأخير، "وإن الإنسان الذي يحيا كل يوم كأنه الأخير لا يهتز أبدًا، ولا يفتر أبدًا، ولا يتزين أبدًا".

أخي داود.. استعن بالله ولا تعجز، ولا تحقرن نفسك، ولا تجهل قدر نفسك، فأنت عبد لله الواحد القهار، وحفيد أبي بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وعمر المختار.

إن الإنسان كل إنسان بلا استثناء إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة كما يقول "ويندل هولمز": "الإنسان كما خلقه الله - الإنسان كما يراه الناس - الإنسان كما يري هو نفسه".

قال -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين: (أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ) (متفق عليه)، وقال -تعالى- عن أمته -صلى الله عليه وسلم-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران:110).

أخي داود.. مَن لجالوت إن لم يكن أنت؟!

حتى لو لم يرك الناس أهلاً للقضاء على جالوت؛ فلا تحرم نفسك من أن تراها كذلك.

أخي داود.. ابحث عن قضية أكبر منك ثم هب حياتك لأجلها.

ابن هدفك يبنيك هدفك.

وأفضل طريقة للتخطيط للمستقبل إصلاح قرارات اليوم.

أخي داود.. ختام قصتك مع جالوت: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)، يا رب نريد أن نكمل من هذا المعين.

إذن البداية من القرآن.. (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة:252).

قال الشيخ "محمد إسماعيل" -حفظه الله- كلمات تكتب بماء العين: "هذا العصر هو عصر الشباب فهم الحاضر والمستقبل؛ لذا مِن حقهم أن يثوروا، وأن يفرضوا التغيير، لا أن يقترحوه طالما في نطاق الأدب".

أخي داود.. هل ترانا نكون أهلاً لحسن ظن الشيخ -حفظه الله-؟!

الإجابة: تملكها أنت أخي داود.. -والله المستعان-.
د/ أحمد خليل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق