الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

حكايات ما قبل الثورة

أتغضب النخبة العلمانية من أجل نهضة قطيع من الغنم، أم طمعًا في إزاحة الراعي؟؟

استحوذ عليّ هذا السؤال وراودني عنيدًا، إذ أرى نخبتنا غَضبى، توشك أن تكون دائمة الحنق، ويكاد أن يقتلها الغيظ، ما تصدر عن وجوههم حمرة الغضب، حتى تردها زُرقة الغم، وعهدي بالقوم السعادة مع ممارسة النقد، والبشاشة مع جلد الذات ..... فمالهم الآن ؟! مالهم قد جاوزت حالهم توصيف الثورة، بل باتت الثورة في أيديهم شيئًا هزيلًا ضعيفًا؟ وأمسى الناس في أعينهم هلكى لا تقوم بكلمتهم دولة؟

تغلبني ابتسامةُ داهية، ونظرةُ مستضعفٍ تمكّن، ولستُ بأيهما، مسترجعًا أيامًا استهلكتُ فيها نفسي لإقناع النُّخبة وكهنتهم والسدنةَ والخدّام، أنّهم ليسوا روّاد نهضة النمور الآسيوية، أو منظري القفزة الفكرية في أوربا، بل هم مثلي من أبناء هذه الشعوب التي يجعلون رزقهم أنهم يسبونها، ويتسامرون في لياليهم بلعنها، ويرونها قطيعًا يُقاد إلى حيث لا يدري! مسترجعًا أيامًا أهلكوها في جلسات الصالونات الثقافية، وعمَرَها غيرهم في حلقات الذكر، أهلكوها ظهورًا ملحًا على شاشاتٍ مشبوهة، وعمرها غيرهم اختلاطًا بالفقير وذي الحاجة، أهلكوها طعنًا في جيل الصحوة، وعمرها غيرهم بالبشارة بالنصر وتلقين أسباب التمكين!!

طالما افتقدتُ فيهم حرقةَ الطَّموح وشفقةَ النَّصُوح، وبكاء العاجز واستعجال المصلح، وما وجدتهم ساعةً يحدثونني عن علامات الطريق، يشبعوننا بمقالات النقد، وحكايات التجارب، وقليلٍ من استنباط الحلول، وكثيرٍ من استقراءٍ ناقص، وتلك حال البشر إذ ينقصهم الوحي، غير أني لم أفتقد فيهم أبدًا الاعتراف بالمفاجأة بعد الثورة المصرية، إذ كانوا يرون أنّ خط سير هذا الشعب لا يمتد إلى خير، بل مهما امتد مستقيمًا فهو مرتدٌّ إلى وراء، لا يقاطعه شعاعُ إصلاحٍ أبدًا، وعلى هذا الأساس بنت النخبة العلمانية نقدها واستنباطها واستقراءها لشتى التجارب، فلا غرو أن تكون الثورة مفاجأة صادمةً تنقض نقدهم، وتفند استنباطهم، وتلزمهم باعتذارٍ لهذا الشعب الذي طالما صُبَّت عليه اللعنات، ليوضع أمامه النموذج الغربي إلهامًا، فإذا به بعد الثورة أصبح إلهامًا لشعوب العالم، فهل سمعتَ المصدومين يعتذرون!؟

قليلٌ منهم اعتذر، وجميعهم فقد اتزانه بسبب المفاجأة، ونسوا الضرورة الأدبية بالمواءمة بين النقد السابق والمدح اللاحق لهذه الشعوب، فإن لم يمكن الجمع وتحقق التعارض، فلا سبيل إلا مراجعة النفس على مستوى الأصول، ولذلك كنتُ أتوقع سيلًا من المراجعات الفكرية للنخب العلمانية، يقترب على الأقل من حجم مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية سنة 1997م، إن لم يكن من باب الالتزام الأدبي فشرطٌ للقبول في ركوب السفينة، فضلًا عن الطمع في مقعد القبطان، فلن أقبل منك أن تكون بالأمس معتزلًا أهل السفينة، منطويًا على نفسك، تحدث أصحابك عن أسفك أنك لم تكن في "التايتانك"، وتعدنا بقرب الهلاك والغرق، حتى إذا استبان الطريق، ولاح في الأفق برُّ النجاة، جئت طامعًا برفقتنا في رحلة العودة دونما مواءمةٍ أو مراجعة؟!

كيف تجمع بين كون "العرب ظاهرة صوتية" ثم مدح الصوت العربي الذي علّم الشعوب النضال للحرية؟! وكيف ينتظم في نسقٍ واحدٍ "نقد العقل العربي" تفريغًا له من هويته ثم التحيات المباركات لهذا العقل؟! أنّي ينطلق من لسانٍ واحدٍ - وُصف صاحبه أنّه مفكرٌ يعيش في الألفية الرابعة- أنّ الأمة العربية "عالةٌ على الأمم المزدهرة، وأصبحوا بذلك من معوقي الازدهار العالمي"، ومن نفس اللسان يُقال "الثورات العربية أظهرت شجاعة ونضج ووعي الكثير من النساء"، إلا أن يكون صاحب هذا اللسان قد رُفع عنه القلم أو وضع عليه ابتلاء أهل الباطل بالتناقض أو يكون ممن يرى دور المرأة هامشيًّا في نهضة الأمم؟! أم تراه كمثل تلك العجوز التي تقول "المرأة العربية لا تهتم إلا بالجنس وفقط" ثم تأتي الآن لتطالب بحق المرأة العربية في الترشح للرئاسة؟! كيف يكون الطمع في الشهادة بالأمس معرةً وإرهابًا وطمعًا في الحور العين، ثم تصير تعزية ضحايا الثورة في وصفهم بالشهداء؟!! كيف تنادي بفصل الدين عن الدولة بنفس الحنجرة التي تمدح مظاهراتٍ تخرج من المساجد؟؟ تناقضاتٌ عجيبةٌ لا تحتمل المواءمة، ولا يصلح لمثلها إلا المراجعة والاعتذار، دون تسويغٍ فارغٍ كتسويغ المفكر التنويري جابر عصفور توليه منصب وزير الثقافة في وزارة شفيق التي استعان بها مبارك في الوقت الضائع!

أذهلتهم المصيبة وفقد الجميع الاتزان، ونسوا حتمية المراجعة وعدم كفاية الاعتذار، فإن الزخم الفكري الذي أحدثته الكتابات النخبوية العلمانية، لم يزِد عن حدود النقد من خلال تمثّل النموذج الأجنبي، انطلاقًا من كون التاريخ العربي بماضيه وحاضره، بسنين عزّه وأيام كبواته، بكل ما فيه معيبًا لا يصلح إلهامًا لنهضةٍ حقيقيةٍ أو طفرةٍ ذات شأن، دون أن يتخطى دور هذا "التراث" عندهم بطن التاريخ ليكون عنصرًا فاعلًا في وجه المستقبل، هذا الزخم كلُّه لابد أن يُطرح جانبًا، ويراجع هؤلاء القوم البعيدون أنفسهم، بحثًا عن خللٍ في التوصيف، وعجزٍ في التحليل، وعيّ في استنباط الحلول، أودى بهم إلى وادٍ غير وادي الثائرين، وهذه المراجعة حتميةٌ قبل أن ينبس أحدهم ببنت شفةٍ أنجبتها خلفيته الفكرية السقيمة تلك!

إن معضلة غياب المراجعة في الصف العلماني، رغم جلاء الحاجة إليها، تعود إلى الاعتياد على مخالفة الأصول والأعراف، دونما حاجةٍ إلى اعتذارٍ أو تسويغٍ مقنع، وكذلك إلى الحرج البالغ الذي ستورثه مراجعةٌ من ذاك الحجم في هذا الوقت، بما يعني ضرورة الانطواء على الذات ريثما يخرجون بنموذجِ بناءٍ جديد، والأوان عند أغلبيتهم –رغم كل شيء- أوان توزيع مغانم، ولا وقت لمراجعةٍ من هذا النوع في خضم القسمة، كما أن المراجعة تعني الغياب الفعّال عن الساحة قبل ذلك، وبالتالي عدم الأهلية لحضور حصاد الثمار!

أمّا أبرز الأسباب في غياب هذه المراجعة، فيعود إلى طبيعة الفكر العلماني نفسه، فالخلو من أيِّ وحيٍّ رباني، مع غياب أصول وقواعد الاستنباط من هذا الوحي، يجعل المراجعة الفكرية عودةً إلى المربع رقم واحد مرةً أخرى، فالأمر –بخلاف الإسلاميين- يتجاوز خطأ المستنبِط، ليصل في الحالة العلمانية إلى انعدام الأصول رأسًا، فالمراجعة تستلزم هدمًا فبحثًا فبناءً فتجربةً فتمحيصًا، ثم قد يحتاجون لإعادة الهدم والبناء مرةً أخرى، ألا ترى ثِقل مثل هذه المهمة على من اعتاد أن يجترَّ فكرًا وواقعًا وإن يكن غريبًا عنه!؟

وخلافًا للواجب وتحقيقًا للتوقعات، فقد ركبت النخبة العلمانية موجة الثورة مع سبق الإصرار والترصد، في مناقضةٍ صريحةٍ لسابق تنظيرهم، وجاء دور الديموقراطية، لتطعن النخبة في خاصرتها بصوتٍ يرفضها، تخذلهم الجماهير في كل استفتاء، رغم المحاولات الهزيلة لإقناع الناس بجدوى اتباع النخبة، والسير على خطاهم للخروج إلى ربيع الديموقراطية!! وعجيبٌ أن تعرقلك الديموقراطية في طريقك للديموقراطية؟!! هذا العجب كان بداية اليقظة وامتصاص الصدمة والتغلب على المفاجأة، فتذّكر العلمانيون حديثَ ما قبل الثورة، ودندن جمعُهم مرةً أخرى حول اختطاف العقل المصري، وسيطرة الإسلاميين والمتطرفين عليه، وحتمية التوعية والإصلاح، ولكنّ الله ابتلاهم بالعجز والكسل، وليس لديهم سابقةٌ عمليةٌ يهتدون بها، ولا لروادهم خارج الصالونات آثارٌ تُقتفى، فما السبيل إذن!؟

من المعلوم أن المرء حين يغضب ينطلق لسانُه بلغته الأولى، وإن كان فصيحًا في عدة لغاتٍ حية، ويعلم الأطباء أن المرء إن غاب عنه وعيه انطلق لسانه بما اعتاد عليه، ومن هذا وذاك، فإن المأزق الذي وقعت فيه نخبتنا العلمانية ردّهم إلى نظرتهم الأولى، لنكون في أعينهم قطيعًا يُقاد إلى حيث لا يدري، لكنّ الجديد أنهم اكتشفوا أن أيسر سبيلٍ ليس في توعية القطيع، ولكن في إقناع القطيع أنّ هناك راعيًا جديدًا أفضل، فليس هناك آدميٌّ في التاريخ طالب بنهضة قطيعٍ من الغنم، ولكنّ التاريخ ملآن بحكايات الرعاة يقتل بعضهم بعضًا، فتغيرت لهجة القوم إلى الطعن في العلماء، والحملة الشديدة على التيار الإسلامي في البلاد، عسى أن يقتنع الناس أنّ العلمانيين خيرٌ لهم!! ولكن الناس يعلمون الفرق بين من ينظر إليهم نظرة القطيع، ويخلّط بين طعنٍ ومديح، ويتغير كما الحرباء، وبين أهل العلم الذين عاشوا سنين عددًا بين الناس، يدعونهم، ويعلمونهم، ويبشرونهم، ويحاولون بعث الروح المسلمة الكامنة فيهم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر .... وباءت حيلة تلك النخبةُ بالفشل!!

لم يبق إذن إلا الدعوة إلى إسكات الناس، والخروج عن اختيارهم، والتشكيك في أهليتهم للاختيار، اتساقًا مع مفهوم القطيع إياه، فليُلغ الاستفتاء، ولتجُبّ رغبتُهم ما بعده، ولتؤجل الانتخابات، وليوضع الدستور على أعينهم، ليرضوا ويسخط الشعب، لقد تركتهم الثورة المصرية في العراء، وبان لهم موقعهم الحقيقي من الشعب، وظهر جليًّا أن المنافسة الشريفة هي عدوهم الحقيقي، فعجبًا لمن تدبر، يعرف أن شرف نخبتنا المزعوم لم يظهر إلا في عهد الطغيان، وتبدد الزعم وتجلّى الخزي في زمان العدل، أفلا يعقلون؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق