الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

المال والسلطة ...... وخلط المفاهيم

تتفاوت درجات تدخل الدولة في السوق و ضبط إيقاعه في النظرية الليبرالية الاقتصادية ، فالبعض يري أنه لا سبيل علي الاطلاق لتدخل الدولة بل يترك الأمر برمته للعرض و الطلب دون أي تقييد حكومي لصاحب رأس المال (من حيث عدد من  يوظفهم أو الأجر الذي يمنحه لهم)، بينما ترى الليبرالية الحديثة أن للدولة دوراً هاماً يتمثل في تنظيمها النشط للاقتصاد و تخفيف معاناة الإنسان، وذلك مثلاً بوضع حد أدنى للأجور و صرف إعانات البطالة و معاشات كبار السن. فإذا نظرنا لهذين الاتجاهين فيمكننا الجزم بأن سياسة جمال مبارك و صَحبه الأقتصادية كانت من أشد أنصار الأتجاه الأول،  أعني اتجاه (رفع يد الدولة كلية)، بل لعلهم جعلوها أكثر توحشاً ، فالدولة لم  تتخل عن حماية  مواطنيها مادياً  فقط ،  بل أرهقت الجميع بالأعباء و الالتزامات، واتجهت الدولة لخصخصة كل ما تحت يديها من مؤسسات اقتصادية بشكل واسع (لن أتطرق للحديث عن المقابل المادي الذي بيعت به هذه الصروح الاقتصادية) لتنفك الدولة أكثر فأكثر عن أي التزام وتترك السوق مفتوحاً بلا ضوابط تمنع الاحتكار و تمنع تضخم رؤوس الأموال بلا أي قانون عمل يحمي العامل والموظف (أعني قانون عمل قوي) وبالتالي ترتب علي تلك الممارسات تشوّه توزيع الدخل و ارتفاع معدلات البطالة .

و لا شك أن السياسة الاقتصادية لجمال مبارك و رفاقه قد أضرت أيما ضرر بالمواطن المصري وألقت بالملايين تحت خط الفقر ، و كرست  لتحكٌم شرذمة من رجال الأعمال في ثروات البلاد بطرق شتى، تتفاوت بين تسهيلات و رشاوي إلي احتكار سلع بعينها ، و لا أكون مبالغاً إن قلت إن هذه السياسة الغير رشيدة (بل المتوحشة)كانت سبباً أصيلاً في إندلاع ثورة 25 يناير و التي جعلت أحد المطالب الملحة لها هو (العدالة الأجتماعية و وضع حد أدني للأجور).بالطبع لا يروق للكثيرين – خاصة من الليبراليين - وصف تلك السياسات الاقتصادية بأنها ليبرالية سواء قلنا إنها ليبرالية كلاسيكية أو حديثة، ولعلنا نراها سياسة المصالح الشخصية و تبادل المنفعة، لكننا نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نصفها بليبرالية اقتصادية إذا ما عدنا لبيانات صندوق النقد الدولي حول معدلات نمو الاقتصاد و هو المؤسسة الدولية الراعية للاقتصاد الليبرالي في العالم الآن.

التذكير بما سبق ومحاولة تحليله قفز إلي ذهني إثر اطلاعي علي حديث أجرته المصري اليوم مع رجل الأعمال نجيب ساويرس بتاريخ 17/11/2009، و بعيداً عما جاء في الحديث من كيل المديح لمبارك باعتباره "ليس بحاجة إلى «هتيفة» ويمكن أن تحبه دون مجاملات بالنظر إلى محصلة إنجازاته" كما جاء علي لسانه فهذا مفهوم منه كرجل أعمال سطع نجمه و نمت استثماراته في ظل حكم مبارك،فما يهمني هو تسليط الضوء علي آراء الرجل في السياسة الاقتصادية للحكومة في ذلك الوقت و مدى اتفاقه مع تلك السياسة، فالرجل يري أن تلك الوزارة قوية جدا ( يقصد من ناحية الأداء) و أنها بدأت بداية رائعة و لكنها تعثرت في العامين الأخيرين ، و المدهش أنه أرجع مظاهر هذا التعثر إلى تردد الحكومة وتأخرها فى الخصخصة و كذلك اتجاهها إلى طرح مشروع الصكوك الشعبية ( و الذي توقف فيما بعد لأسباب مجهولة، لعله هو و أقرانه من رجال الأعمال قد ضغطوا من أجل إيقافه)،كذلك رأى أن رشيد محمد رشيد قد حدث له ما أسماه ساويرس "ردة اقتصادية" حيث بدأ يأخذ بالأسلوب الاشتراكى القديم عندما ألغى المناطق الحرة وحتى الجمارك، و هو لايؤيد مثل هذه الأجراءات.


أشاد ساويرس أيضاً بتجربة وجود رجال أعمال في المواقع السياسية كوزراء ،بل استنكر من يهاجم ذلك فقال "من قال إن رجال الأعمال لا يصلحون؟!!!" مع أن الجميع قد اتفق على ذم هذه الوزارة بل أسموا ذلك (تزاوج المال و السلطة). أخيراً قال ساويرس عن رجال الأعمال هؤلاء - الذين يحتلون مناصب وزارية - نصاُ: "أقوى مجموعة اقتصادية فى تاريخ مصر هى المجموعة الحالية بإجماع العالم، سواء وزير الاستثمار أو المالية أو التجارة والصناعة" و هم الذين يقبع أغلبهم الآن خلف قضبان سجن طره رهن المحاكمة بتهم فساد مالي،و الأدهي أنه أضاف وزير المالية الذي أجمع القاصي والداني علي فشل سياساته وعلى أنه سبب رئيس في الخراب الذي حل على المواطن منذ توليه الوزارة (جدير بالذكرهنا أن نشير إلي استيلائه مثلاً علي أموال التأمينات و فرضه لضريبة عقارية مجحفة رفضها الجميع). و لا أدري إن كان هذا هو رأي ساويرس في مبارك ومن بعده في حكومة نظيف ، فما عساه يكون رأيه في الثورة إذن و هل من ثمة سبب يثور له الناس في نظره ما دام مثل أولئك الأفذاذ يحكمونه ؟!! و لكن هذا الحوار لم يدهشني حين جمعته جنباً إلي جنب مع حواراته في وسائل الاعلام إبان عضويته للجنة الحكماء المزعومة و التي كانت حلقة الوصل بين المعتصمين و السلطة و لكن ليس هذا مقام مناقشة ذلك.

ما يعنيني  بشكل هام جداً هو آراؤه في الأداء الاقتصادي لحكومة نظيف، ذلك أن ساويرس قام بتأسيس حزب سياسي بعد سقوط النظام و عزم علي خوض الغمار السياسي بعد أن كان عازفاً عنه. ومع توافر المناخ الديمقراطي الحقيقي الذي من المفترض أن يتيح للجميع أن يصل لمراكز صنع القرار أو المراكز التنفيذية، صار لزاماً أن نناقش جميع الأطروحات التي قد تصبح في يوماً ما قوانين و سياسات تدير مصالح البلاد والعباد. إن كان ما طرحه ساويرس في حواره- من تأييد تام لسياسات النظام السابق الأقتصادية -  يمثل البرنامج الاقتصادي له ولحزبه حال وصوله للسلطة أو على الأقل تولي منصب اقتصادي في البلاد،  فهذا في رأيي يعد ردة لعصر جمال مبارك و صحبه وسياستهم التي أثارت الشعب و ضمنت له معيشة ضنكاً. ذلك أن ليبرالية ساويرس التي تفتح الباب علي مصراعيه لتوحش رأس المال و أصحابه دون أية مراعاة أو ضمانات لمحدودي الدخل والفقراء ممن صاروا يمثلون غالبية الشعب الأن، فالوضع الاقتصادي في مصر لا يسمح بأن تنزع الدولة عنها ما سبق و التزمت به تجاه مختلف فئات الشعب، و إن كنا و لا بد ناظرين في ذلك فلننظر إذن لكيفية وصول الدعم لمستحقيه الأصليين لا أن نلغي الدعم بالكلية مثلاً.

إن الأخذ بما جاء علي لسان ساويرس في حديثه عن الوضع الاقتصادي في مصر قد يكون محركاً لثورة غضب ثانية يكون الجوع و الفقر فيها هما اللاعب الأبرز. أتفهم تماماً وضع ساويرس كرجل أعمال بارز حقيق عليه أن يرعيى استثماراته، و كنت أحترم فيه عدم اشتراكه في المسرحية السياسية الهزلية التي كان يديرها النظام السابق (علي الرغم من أنه قد تبين دعمه المالي لحزب الجبهة الديمقراطية سراً !! و لا أدري لما السرية في ذلك) و لما صار الأمر يبشر بالنزاهة قرر أن يدخل الملعب السياسي، و لكن لا ينبغي أن يكون هذا علي حساب الهدف الأساسي للعملية السياسية و هو "الانحياز التام للمواطن" و بخاصة مواطن عاني و يعاني كالمواطن المصري يريد أن يشعر أن هناك من يسمع أنينه لا من يمص دمه،أما تلك السياسات الساويرسية فلا تخدم إلا من يمتلك رأس المال و قد رأينا آثارها فيما سبق. و يعود ساويرس ليزيدني حيرة مرة أخري في هذه الأيام بما جاء علي لسان المستشار نجيب جبرائيل (بصفته محامي نجيب ساويرس) في موقع الأهرام الإلكتروني حيث طالب المجلس العسكري بالتدخل لحماية موبينيل ووقف ما أسماه بـ"الحملة الشرسة" التي يتعرض لها موكله، وحملات المقاطعة ضد شركة خدمات المحمول التي يمتلكها و لا أدري ماذا عساه المجلس العسكري أن يفعل تجاه حيال ذلك ، هل يحاكم عسكريا كل من تثبت عليه تهمة مقاطعة موبينيل ؟!! و سواء اتفقنا أو اختلفنا مع تلك المقاطعة و مبرراتها، فيبقى الاتفاق حول كونها تدخل في صميم الاختيار الحر للمستهلك، الأمر الذي تعضده و تؤكد عليه المبادئ الليبرالية التي يتبناها ساويرس وحزبه ذو المرجعية الليبرالية، فكيف به الآن يطالب الدولة أن تقف ضد اختيارات الأفراد بحجة انقاذ الاقتصاد الوطني ، و لماذا لم ينظر لموقف المقاطعين لشبكته علي أنهم يدعمون الاستثمار الأجنبي بأنضمامهم كمشتركين في شبكات المحمول الأخري؟!!

 فهل مثل هذه الأفكار و الأطروحات ستحاول إضفاء الشرعية علي علاقة المال بالسلطة إذا ما وصل أصحابها لمناصب نافذة ،تلك العلاقة التي اعتبرها الكثيرون علاقة آثمة؟!! أم أن الأمر لا يعدو كونه نوع من التناقض في الأفكار تغليباً للمصالح الشخصية دون أن يبلغ حد الأيديولوجية الاقتصادية؟!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق